حين تتنازل المعارضة السورية وتعلن جهوزيتها للتفاوض المباشر مع ممثلي النظام من دون اشتراطات مسبقة، وحين تسعى روسيا لفرض خطة جديدة للتسوية السياسية لا تمس أركان الحكم القائم، وتتوسل نتائج اجتماعات الآستانة ومؤتمر واسع للسوريين يزمع عقده في سوتشي في شباط (فبراير) المقبل، وحين يغض النظر عن استخفاف النظام بمفاوضات جنيف، عن استهتاره بالمواعيد الأممية، عن مناكفاته لتمرير اشتراطاته ورفض أي لقاء مباشر مع ممثلي المعارضة، ثم تفننه بتسخير ما يمتلكه من خبرات لتمييع تلك المفاوضات وإفراغها من محتواها، حينئذٍ يمكن تفسير حيرة من يتساءلون، لماذا يرفض النظام السوري ويعرقل تسوية سياسية ترسم على مقاسه وتضمن استمراره؟!
ربما لا يخطئ من يعتبر المشهد مجرد تبادل أدوار بين النظام السوري والأطراف الداعمة له، فبينما تظهر موسكو بمظهر الحريص على الحل السياسي والمشجعة على تقديم التنازلات، يترك للنظام ومن خلفه إيران مهمة التشدد والتصعيد، والهدف المضمر هو ربح الوقت لتعزيز التقدم العسكري وقضم المزيد من المناطق الخارجة عن السيطرة، بما فيها تلك الخاضعة للتهدئة وخفض التوتر، ما يفسر صمت موسكو، إن لم نقل تواطؤها، تجاه الاختراقات المتكررة للهدن من قبل قوات النظام والميليشيات الإيرانية، ثم تصعيدها معهم، مع اقتراب كل جولة تفاوض، للقصف والحصار والعمليات العسكرية التي اتسعت هذه المرة وشملت أرياف حماه وحمص ودرعا وإدلب والفوطة الشرقية، وفي الطريق يمكن لروسيا توظيف تشدد النظام وإيران، لاستنزاف وتحجيم المعارضة السورية وتطويعها سياسياً وعسكرياً وزيادة عزلتها شعبياً وعالمياً، وأيضاً لانتزاع ما يلزمها من تنازلات من قبل أطراف دولية وإقليمية لا تشغلها مأساة السوريين وما يكابدونه بمقدار ما تشغلها مواجهة بقايا الإرهاب الإسلاموي، بما يمكن موسكو من الالتفاف على بيان جنيف (2012) وقرار مجلس الأمن 2254 وتسخير الملف السوري في صراعها التنافسي على النفوذ.
وربما يصيب من ينظر إلى المشهد من زاوية مغايرة جزئياً، ويرى مصلحة جدية لقادة الكرملين في الإسراع بإنجاز تسوية سياسية، ربطاً بتزايد خشيتهم من الغرق في صراع سوري مفتوح على مختلف التدخلات الخارجية، قد يستنزفهم مع الزمن، ويجهض ما حققته قواتهم من نتائج عسكرية، ويفقدهم القدرة على التحكم بخيوطه، وربطاً بإدراكهم صعوبة محاصرة الوجود العسكري الإيراني في سورية وتخفيف مخاطره على حدود إسرائيل، وأيضاً صعوبة تشجيع الدول الغربية والعربية للمشاركة بإعادة الإعمار، إن لم يبادروا لخلق مستوى مرضٍ من الاستقرار والتوازن السياسيين، وأخيراً ربطاً بحاجة داخلية تتعلق بتوظيف دورهم في تخميد الصراع السوري ومعالجته سياسياً، كورقة قوة مع اقتراب موعد الانتخابات.
وبين الاستجابة لرغبات الحليف الروسي وضغوطه لتمرير حل سياسي وبين الميل للاستقواء بالنهج الحربي الإيراني، تتأرجح مواقف النظام السوري وتتلون، فإلى جانب موافقته الشكلية على التسوية والمفاوضات إرضاءاً للمنقذ الأكبر، لا يدخر أي جهد، عملياً، لإفشالهما، ولا يضيع فرصة للسير قدماً نحو تحقيق الغلبة والحسم النهائيين، يغريه ما يسميه انتصارات واسعة تحققت على الأرض والدعم غير المحدود من حكومة طهران وحرسها الثوري، اللذين باتا يعتاشان على مناخات الفوضى الأمنية والشحن المذهبي، ويتحسبان جيداً من أن تفضي التوافقات السياسية إلى تعريتهما ومحاصرة ما راكمتاه من نفوذ قهري في المشرق العربي.
وأخيراً، ربما لا يجانب الصواب من يربط رفض النظام السوري لأية تسوية سياسية، بالبنية التكوينية لهذا النوع من الأنظمة الذي يخشى السياسية ولا يعرف غير القمع والتنكيل طريقاً لضمان استمراره وسطوته، والقصد أن تغييب الحقل السياسي هو عادة أصيلة عند سلطة معجونة بتاريخ طويل من القهر والغلبة، يعززها نهج أنتجته وفرة من تجاربها القمعية، بأن العمل المجدي لدوام سيطرتها ليس الاستجابة لمطالب الناس ومعالجة مشكلاتهم ونيل ثقتهم بل الاستمرار في إرهابهم واذلالاهم وشل دورهم، وإذا أضيف تحسب بعض رجالاتها من دور أي تسوية سياسية في تقريب ساعة المسائلة والحساب والعقاب، بخاصة أولئك الذين أوغلوا في ارتكاباتهم، وأضيفت أيضاً، حقيقة أن السلطة القائمة هي خير من يعرف أن القطيعة بينها وبين قطاع واسع من المجتمع وصلت إلى نقطة لا رجعة منها جراء ما أباحته من قمع وقتل وتدمير، وتدرك تالياً، حتى وهي في موقع القوة، أخطار الإجراءات المرافقة للحقل السياسي، حتى الشكلية منها، المتعلقة بصياغة دستور جديد وخوض انتخابات رئاسية وبرلمانية وتشكيل هيئة حكم انتقالي، إن لجهة هتك هيبتها وسطوتها، وإن لجهة تحريض الخلافات في بطانتها وبين مراكز قوى متباينة المصالح والأهداف تشكلت في آتون الصراع، وإذا أضيف أخيراً ما قد يكشفه المسار السياسي عن دورها ومسؤوليتها في المشاكل الناجمة عن الحرب وتداعياتها، كالتهتك والتردي الاقتصاديين والأوضاع المعيشية المزرية ومعضلات الخراب والأمن والتفكك الوطني والفساد وقضايا اللاجئين والمعتقلين والمغيبين والمشوهين، يمكن الوقوف عند أهم الأسباب البنيوية التي تؤكد عجز السلطة السورية عن خوض معركة سياسية ومدنية مكشوفة، وشدة تحسبها من أن يفضي ذلك لتفكيك بنيتها وسطوتها، وتالياً عمق دوافع رفضها الامتثال لقواعد الصراع السياسي.
والمشهد المحزن: مفاوضات تراوح في مربعها الأول، ووفد معارض يناشد النظام كي يكون شريكاً له في التفاوض… والمشهد المؤلم: سلطة تدعي الانتصار وتتبختر فوق هذا الركام، لا مكان في دنياها للسياسة، أباحت البلاد أمام مختلف أدوات الفتك والتنكيل كي تئد حلم الشعب بالحرية والكرامة… والمشهد المؤسف: وسيط أممي يصارح المعارضة اليوم، بأنها لا تمتلك أي سند دولي يشجعها على الذهاب إلى مؤتمر سوتشي، ولكن يعدها شخصياً بأنه سيبقى وفياً لسلاله الأربع ولبيان جنيف وقرارات مجلس الأمن، بينما يهز رأسه عاجزاً ومتهرباً من مفاتحة النظام بمأساة المعتقلين والمفقودين والمحاصرين والمعذبين!