براء الطه
فيروز حدثتنا عن نذر قدّمه هذا الشعب للشمس وللشوارع وعن الذكريات التي تبعثرها ليالي الشتاء في هذه المنطقة، منطقة تختلط فيها جميع الأوراق وتتشابك الخيوط، يصعب الفرز بين المحلي والإقليمي والدولي، لكن لا بد لكل متابع من فرد أوراقه جيدًا وقراءة كل حرف وفهم كل حركة.
لا يكاد يختلف اثنان أن المشهد الدولي تغير كثيرًا خلال السنوات القليلة الماضية ليس في المناطق العربية فقط، وإنما إقليميا ودوليًا. تشابك حوّل الشرق السوري إلى منصة مهمة يتم توجيه الرسائل السياسية عبرها إلى مختلف الجهات الدولية.
البوكمال مدينة صغيرة تقع في الشرق السوري على الضفة الغربية لنهر الفرات تقدر مساحتها بـ 2000 هكتار، وتشكل معبرًا حدوديًا بين العراق وسوريا، نظرًا لقربها من مدينة القائم العراقية. خرجت عن سيطرة النظام السوري في نهاية الشهر السابع 2012، عبر قادة محليين كان أبرزهم صدام الجمل، ثم استولى تنظيم داعش على المدينة في بداية العام 2014، وبقيت في واجهة الأحداث نظرًا لبروز قادتها المحليين، وخاصة الجمل، في صفوف تنظيم “الدولة”، بعدما تحول الرجل من قائد محلي إلى أبرز أمراء الدولة وأحد أشهر قادتها الميدانيين في العراق وسوريا.
وهنا لا بد من الإحاطة بكل جزء من الصورة إن بحثنا بشكل منطقي وبعيدًا عن التجييش العاطفي في صورة فسيفسائية كبيرة حول هذه المنطقة التي يعرف حائك السجاد الإيراني قيمتها جيدًا، ولذا أسرع في مساعدة النظام السوري لبسط سيطرته عليها بمساعدة وصلت إلى درجة القيادة الكاملة للعملية، ومساندة عراقية وصلت إلى درجة المشاركة المباشرة بمئات المقاتلين، وتدخل الطيران الحربي العراقي والروسي بشكل مكثف.
المشهد رسم بخطوط واضحة قُصد أن تكون علنية، بداية من إيران التي جاء إعلان نهاية تنظيم “الدولة الإسلامية” منها، وعبر قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، الذي ظهر في معركة البوكمال كقائد ميداني عبر شريط مصور بثه الإعلام الحربي التابع للنظام السوري في 15 تشرين الثاني 2017.
المعادلات العسكرية
تحرير أو سيطرة أو سقوط، اختلاف التسميات لم يعد يهم لأن التوصيف حاصل على الأرض، لكن المهم هو الإعلان الأبرز الذي جاء عبر الرئيس الإيراني الذي أكد نهاية “الشجرة الخبيثة”، في كلمة متلفزة بثت على الهواء في 23 تشرين الثاني، مؤكدًا الدور الإيراني في القضاء على داعش، وهذا تفصيل تحتاجه طهران التي تدافع لإبعاد تهمة الإرهاب عنها ولتأكيد دورها في محاربته وإشارة واضحة إلى نهج طهران مع المنطقة خلال الفترة المقبلة، وذلك بالتزامن مع زيارة رأس النظام السوري لروسيا ولقائه مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في سوتشي، ثم لقائه مع قيادة وزارة الدفاع والأركان العامة للقوات المسلحة الروسية وهو اجتماع عسكري روسي كان حتى وقت قريب حكرًا على العسكر الروسي ومشاركة دولية واحدة هي بلاروسيا، التي تعتبر أحد اركان البيت الروسي، هذه الرسائل كلها هذه تحمل في طياتها تأكيدًا على الطريق المستقبلي للروس وتعاملهم مع سوريا، وبالتالي فالطرفان الإيراني والروسي باقيان في المنطقة حتى أجل غير معلوم.
على الطرف الآخر من نهر الفرات تتشكل معادلة أخرى يصوغها الجانب الكردي متسلحًا بدعم دولي وخبرات أوروبية وأمريكية، بعضها تم الإعلان عنه وخرج إلى النور وبعضها مايزال طي الكتمان رغم حركته النشطة على الأرض. وتعد الولايات المتحدة الأمريكية أول من أعلن عن وجودها الصريح عبر عدة قواعد نشرتها في محافظتي الحسكة والرقة، وجود لاقى دعمًا وترحيبًا عربيًا ظهر في زيارة علنية لوزير سعودي إلى مدينة الرقة، فيما يحكى في الأروقة الخلفية عن مساندة إماراتية.
كان هذا التحالف يريد الوصول إلى مدينة البوكمال لتقديره أهمية هذه النقطة الحدودية حاليًا ومستقبلًا، وخاصة لاستمرار تواصل المحور الإيراني العراقي السوري اللبناني، لكن ضعف الأدوات المحلية وعدم الاتفاق بين فصائل الحر والأكراد لم يساعدا الطرف الكردي على التمدد إلى هذه المنطقة، كما أن التهديدات الإقليمية للأكراد أخذت تتزايد خلال الفترة الماضية وبالتالي فرضت عليهم مراجعة حساباتهم بشكل جديد، وربما سيجبرهم على المزيد من الانسحابات في المناطق التي سيطروا عليها سابقا لصالح قوات النظام وحلفائه، في حين غابت فصائل الجيش الحر كطرف مستقل وبشكل مستغرب عن معركة البوكمال وخاصة فصائل جيش سوريا الجديد الموجود على الحدود الأردنية السورية بقيادة المقدم مهند طلاع، الذي نفذ هجومًا سابقًا على المنطقة في نهاية حزيران 2016، وكان من أبرز المرشحين لتحقيق تقدم ميداني نحو هذه المنطقة التي ستخلق له وجودًا جغرافيًا في دير الزور وتوسع حاضنته الشعبية الموجودة في المنطقة.
الضعف العسكري لأطراف المعارضة على الأرض بجميع أطيافها وغياب الرؤية الاستراتيجية للفرقاء، والنزاع الداخلي الذي شل بعض هذه الأطراف، خلق مصدر قوة جديد لمحور النظام وحلفائه ومكنهم من التقدم بشكل سلس وبسط نفوذهم على أكبر مساحة ممكنة مقدمين أنفسهم دوليًا على أنهم المخلص المنتظر من الجماعات الإرهابية التي تصدّر التطرف والإرهاب لجميع أنحاء العالم.
تغير المعادلات السياسية
سنوات طويلة مرت وأضعفت أغلب الأطراف السياسية وخاصة ائتلاف قوى المعارضة الذي شهد تغيرات مهمة في بنيته وتوجهاته خلال الفترة الماضية أدت إلى تنازله عن بعض ثوابته.
كما أن الاستقالات أو الإقالات في صفوفه تؤكد تغيرًا واضحًا في سياسة الداعمين لهذا الكيان المعارض، الذي كان يشكل حجر الأساس في بنية المعارضة السورية في الخارج.
في حين يشكل الفيتو التركي على زيادة حجم الأكراد حاجزًا سياسيًا وعسكريًا يمنع زيادة قوتهم، ليتحول النظام الى طرف قوي تجاه جميع الأطراف في أي مفاوضات قادمة وخاصة في ظل حالة التفكك بين أطراف المعارضة، وعدم توحدهم حول أجندة واضحة وصراع المصالح الداخلي فيما بينهم.
في حين سعى النظام إلى إضعاف كل طرف مواجه له وخاصة من خلال سحب اعترافات سياسية سيكون لها أثر عسكري على الأرض، وخاصة بعد التصريحات التركية بمحاربة الإرهاب وضرورة استقرار سوريا، وأهمية خفض التوتر في محافظة إدلب، هنا نتحدث عن جبهة النصرة أو جبهة فتح الشام بشكل خاص التي ستشهد تصعيدًا عسكريًا خلال الأشهر المقبلة بحجة مواجهة الإرهاب.
قديما قيل إن السياسة عالم متحرك تحدده نظم سياسية تتغير كل فترة مع تغير موازين القوى الدولية، وقبل عقود قال الجنرال الفرنسي شارل ديغول إن من يريد أن يمارس السياسة عليه أن يعرف الجغرافيا ويحفظ الخرائط بشكل جيد، فالإحداثيات الجديدة على الأرض والتقارب التركي- الروسي- الإيراني التركي ستشكل واقعًا جديدًا ومحورًا إقليميًا ومهدًا لسياسة جديدة في المنطقة.