«دخلت إلى الغرفة فرأيت ثلاثة وحوش. اثنان يمسكان بذراعي علوى والثالث يمسك برجليها. كان يرتدي الشيّال (القميص الداخلي)، وكان يغتصبها». كان هذا المشهد الأول من رحلة اكتشاف معنى رئاسة «الشاب ذي العينين الزرقاوين» في الوثائقي «سورية الصرخة المخنوقة» الذي عرضته قناة «فرانس2» أول من أمس.
بعد التقارير الدولية عن القصف الكيماوي الذي تعرضت له الغوطة عام 2013، وعن «المسلخ» العامل ليل نهار في سجن صيدنايا («منظمة العفو الدولية»- شباط/ فبراير 2017)، وبعد صور «قيصر» لضحايا القتل المنهجي الذين نُقلوا إلى المستشفى العسكري قرب دمشق. وبعد آلاف الشهادات من معتقلين سابقين عن التعذيب الذي يفوق الوصف، يأتي «سورية الصرخة المخنوقة» ليقول إن الاغتصابات الجماعية لم تكن لانتزاع اعترافات أو معلومات، بل كانت «لتحطيم العائلات وتحطيم المجتمع، وفي نهاية المطاف لتحطيم الثورة»، على ما قالت مخرجة الفيلم مانون لوازو.
لكن مهلاً. يعرف السوريون وحشية نظامهم منذ اختبروه في ثمانينات القرن الماضي. ويعرفها بقدر لا بأس به، اللبنانيون والفلسطينيون الذين ذاقوا بطشه وتعرفوا إلى زنزاناته من المّزة إلى تدمر وإلى راجمات صواريخه ومدافعه. ويعرف العالم كل شيء بالتفصيل الممل عن زبانية المعتقلات السورية، بل إن «العالم الحر» لم يتردد في إرسال بعض السجناء لديه إلى الأجهزة السورية لتتعامل معهم حتى لا يلطخ أدعياء الحضارة أيديهم بدماء مشتبه فيهم بالإرهاب.
على رغم ذلك، لا يُحرّك أحد ساكناً. لم تعنِ جثث أطفال عبرين والحولة ودرعا شيئاً. ومريم خليف الضحية الجريئة، على حق عندما تقول إن مشاهدي هذا الوثائقي لن يفعلوا شيئاً للنساء اللواتي ما زلن في المعتقلات حتى اليوم، «سيشاهدون وسيشعرون ببعض الأسف ثم ينصرفون».
ولعل هذا جوهر المسألة: ماذا تعني المأساة السورية، عندما يتم إنزالها من المجردات والمفاهيم المطلقة بالنسبة إلى العالم الذي ينتفض لتحرش منتج سينمائي أميركي بالممثلات أو مرشح إلى منصب في الكونغرس أو مذيع تلفزيوني بزميلاته؟ ليس المقصود التقليل من فداحة التحرش واستغلال المكانة الذي يرافقه من أجل فرض الرغبات والغرائز على الأخريات والآخرين. بل على العكس: ها هي جرائم موثقة، آلاف الجرائم، التي لا تهم العالم ذاته المنتفض على التحرش ولا تدفعه إلى أكثر من إنتاج وثائقي قد يُنسى كأنه لم يكن.
لا جديد في كلام لوازو عن تحطيم العائلات والمجتمع. وما قالته الضحايا عن قتل أهاليهن لرفيقاتهن بعد خروجهن من معتقلات الأسد، عن المصيبة المزدوجة التي يواجهنها، الاغتصاب في الداخل والعائلات «المحافظة» في الخارج، يشكل مرآة لمجتمعاتنا المنكوبة بذاتها وبالآخرين، بأنظمتها وبقيمها، بحكوماتها البربرية وبالعالم الذي يتلذذ بتوزيع امتيازات الحضارة وحقوق الإنسان على أصناف من البشر، ويحرم أصنافاً أخرى منها.
السؤال الآخر، ما سر تأييد العالم هذا النظام؟ حربه على «داعش» وإرهابها؟ تصدّيه للإمبريالية؟ قتاله إسرائيل؟ بمَ سيجيب حلفاء الأسد، الذين يعرفون قبل غيرهم اتساع حقول القتل التي زرعها بجثث السوريين، إذا واجهوا جبال الوثائق والشهادات عن صديقهم وحليفهم؟ هم طبعاً ليسوا أفضل منه، وسجلاتهم تشهد لهم على استسهال اللجوء إلى القتل والعنف متى وجدوا ضرورة أو فرصة. الأرجح أنهم سيبرّرون له قتله «الإرهابيين والإرهابيات»، مثل الذين ظهروا في الوثائقي بدواع أكبر من أن تدركها عقولنا الصغيرة: يعمل هذا المحور على تحرير القدس وإسقاط المشروع الصهيوني… لكن ما هي صفات البشر الذين سيبقي بشار الأسد وحلفاؤه عليهم ليروا ثمرات تحرير القدس؟ ماذا يعني أي شيء لمن تعرضت لاغتصاب متكرّر في سجون الأسد؟ وها نحن أمام ثلاثة وحوش جديدة، الأسد وإسرائيل و»داعش»، يتعين أن نختار بينها.
نعم. سيزهر الورد على قبر علوى التي قتلها أهلها بعد خروجها من المعتقل، كما قالت رفيقتها. وستكبر أشجار الفل لتفوح رائحته على العالم بأسره.