تقف المعارضة السورية، في دراسة خياراتها من مؤتمر سوتشي، على مفترق طرق، أحدها يهمّشها، وآخر يحدث شرخاً في علاقة أطياف المعارضة المشاركة في الوفد الموحد لها، وثالث يمكنه أن يكون سبباً في غضب شعبي بين أوساط حاضنة الثورة، من المتشددين في رفض الدور الروسي كملاذ لحل الصراع السوري.
وبين الخيارات الثلاثة المؤلمة، في العمل الديبلوماسي والسياسي، لوفد يشقّ أولى خطواته في العمل الوطني المشترك، لفرض خريطة طريق، يفترض أن تؤسّس للانتقال السياسي إلى ما بعد النظام الاستبدادي، يمكن مناقشة معطيات وتحولات الصراع السوري من خلال الوقائع الميدانية على الأرض، ومن خلال الاصطفافات الدولية المتحركة تبعاً للمعطى الأول، والظروف المحلية الخاصة بهذه الدول، وآثار استمرار هذا الصراع على المنطقة والعالم، الذي قطف الثمار، أو التداعيات، المرّة لتأخير الحلّ في سورية، من خلال موجات اللاجئين، أو من خلال انتشار الإرهاب والتـطرف، وتعميم وحشيته حيث أمكن له ذلك. هكذا، وفي مناقشة الخيارات المذكورة، يمكن ملاحظة الآتي:
أولاً، إن تخلي المعارضة عن دورها رسمياً، عبر المشاركة في مؤتمر سوتشي، المزمع عقده في مطلع العام القادم، يعني الانكفاء إلى دور المتفرج، على حدث يمكنه قلب الموازين داخل منظومة المعارضة نفسها، بحيث يصبح خيارها محدداً بالالتزام بمخرجات منصّة جديدة («سوتشي»)، والتي قد تُفرض لاحقا على المعارضة، ضمن مساع دولية تشبه ماحدث قبيل الاجماع على القرار2254، الذي يعتبر اليوم مرجعية رئيسة في العملية التفاوضية. ومعلوم أن مؤتمر القاهرة الذي انتج منصة القاهرة، واجتماع موسكو الذي أنتج ما سمي منصّة موسكو، على رغم رفض المعارضة، المتمثّلة بالائتلاف الوطني آنذاك المشاركة بكلا الحدثين، أديا إلى النص عليهما في القرار الأممي ليصبح ضم هاتين المنصتين إلى وفد المعارضة التفاوضي، بمثابة محور للقرار 2254، وهو ما أنتج اليوم مؤتمر الرياض 2، الذي عقد مؤخراً، ومن ثم الوفد الموحد المشارك في الجولة الثامنة من جنيف. وأقصد هنا أن تجاهل الوفد السوري المعارض للمؤتمر («سوتشي») لا يعني بالضرورة امكانية تجاهل نتائجه، وهو الأمر الذي يجب أن تتنبه له الهيئة العليا بإحداث بدائل مقنعة، وليس بخطابات إعلامية شهدنا مثيلاتها في السنوات السابقة على أحداث متشابهة، من دون أن تفيد شيئاً.
ثانياً، في حال انقسام المعارضة بين مؤيد للمشاركة في مؤتمر سوتشي ورافض له، على رغم أنهما شريكان في وفد واحد، فإن ذلك يعني أننا أمام سيناريو مكرر لمؤتمر آستانة، الذي رعته كل من روسيا وتركيا وإيران، والذي رفضته أطياف كثيرة من المعارضة السياسية، واعتبرته مؤامرة روسية للتشويش على مسار جنيف الأممي، إلا أنه على رغم ذلك أصبح اليوم متمماً، وفي كثير من الأوقات قائداً في نتائجه الميدانية لمسار جنيف السياسي، وأحيانا متقدماً عليه في الطروحات والتنفيذ. ومع كل هذا فإن تخصصه في الجانب العسكري والميداني/ المتعلق بالإرهاب والحرب عليه جعله، على رغم التجاهل الأميركي له، جزءاً أساسياً في العملية التفاوضية الكلية، إذ بات يتم البناء على مخرجاته داخل جنيف وخارجها، من خلال الاتفاقات الثنائية الروسية الأميركية، أو الروسية مع الأطراف المحلية، وكان يمكنه أن يتطور ليأخذ دوراً سياسياً، بيد أن التدخل الأميركي حال دون ذلك، لأسباب منها: واقع الوجود الأميركي، وشراكاته مع الطرف الكردي غير المشارك حتى اليوم بالمسارات التفاوضية جميعها.
ثالثاً، يبقى خيار المشاركة في «سوتشي»، وهذا ربما يضفي عليه بعضاً من «الشرعية» التي تبحث عنها موسكو من جهة، بيد أن وفد المعارضة في هذا الخيار يواجه احتمالية فقدان حاضنته الشعبية التي يمتلكها من جهة مقابلة، وهذه هي المعادلة الصعبة التي تواجهها المعارضة في اتخاذ قرارات مصيرية، بعيداً من حال التهييج الشعبي التي تمارسها أطراف خارج الوفد. والقصد أن هكذا قرار يفترض أن يتم تحصينه بنوع من الاجماع، في المعارضة، وبالتمسك بالسقف التفاوضي، ضمن رؤيا واضحة تجرى باتقان شديد فوائد المشاركة من عدمها، وتبقي القرار النهائي بيد جهة تمثل فعليا هيكلية جديدة لآلية اتخاذ القرار الشعبي، بعيداً عن المحاصصات، وضمن خيارات مصلحة السوريين وحاجتهم إلى الإنتقال من الفعل الإعلامي إلى الحل الميداني بقرار شعبي مسؤول.
ولتحديد هكذا رؤيا لا بد من وضع السوريين بصورة جدول أعمال أو أجندة سوتشي وفق رؤية موسكو التي تفترض، أو تعتزم:
– إنشاء لجنة لصياغة مسودة دستور يتوقع أن تقلص صلاحيات الرئيس، وأن تضبط عدد مرات الترشح لهذا المنصب، بمرتين متتاليتين بمفعول رجعي، وهو ما يعني استبعاد الأسد من التسوية الجديدة تكتيكياً، وفق النصوص الدستورية الجديدة الذي يجرى عليها استفتاء شعبي خلال مدة أقصاها ثمانية أشهر.
– إنشاء لجنة حوار وطني متعددة المناطق تتبادل المشورات والمعطيات والمشتركات مع اللجنة السابقة، وتفيد بالوصول إلى تفاهمات شعبية مع السوريين داخل سورية وخارجها.
– تبلور المفاوضات، في مسار جنيف، آلية للعمل على تفاصيل الملفات العسكرية والسياسية والقضائية.
وضمن هذه الأجندة فإن النجاح في هذه البنود يعني، على الأرجح، الوصول إلى تفاهمات حول شخصية سورية لقيادة المرحلة الإنتقالية، من داخل النظام ولكن ضمن شروط المعارضة، التي تفرض ألا تكون هذه الشخصية شاركت بسفك دم السوريين، قراراً او فعلاً، وهذا تحديداً ما جعل من فاروق الشرع الشخصية الأكثر قبولاً من غيرها، وهيأ لبروز اسمها كشخصية توافقية شعبية ودولية، من دون أن يعني ذلك أن الأسد أو رموز حكمه وافقوا على هذا الخيار، أو أن «الشرع» طرف في اتفاق حصل بين الروس والدول الراعية «لسوتشي» المقبل على مهل.
وعلى هذا يمكن البحث في مشاركة المعارضة من عدمها في المؤتمر، من خلال السؤال عن إمكان المشاركين في كسب معركة التفاوض في سوتشي، وإمكان صياغة مخرجاته بما يخدم تنفيذ القرارات الدولية من جنيف 1 و2118 و2254، بما يفرض التنفيذ الفعلي وخاصة مايتعلق بالفقرات 13و14 و15 من القرار 2254 المتعلقة باجراءات بناء الثقة، التي تتحدث عن إطلاق سراح المعتقلين وفك الحصار عن جميع المناطق ووقف العمليات القتالية؟
وهذا يقود إلى سؤال آخر عن نقاط القوة في رفض المشاركة، وانتظار ما ستؤول إليه النتائج، التي يتم إقرارها بعيداً من المعارضة وفي غيابها، وبما لايضمن مصالح الثورة في إنهاء النظام الحالي، والانتقال إلى مرحلة بناء سوريا جديدة، وفق الأسس التي قامت عليها القرارات الدولية المشار إليها، للبدء في عملية إعمارها وهو الشرط اللازم لذلك؟
إن البحث في خيارات المعارضة في هذه المرحلة يحتاج من الوفد، ومن رئيسه نصر الحريري من موقعه في المسؤولية، إلى أكثر من قبوله الرؤية المحاصصية، والتي تجعله على شفا حفرة من الانهيار المحتوم، بسبب آلية تجميعه القسرية من جهة، والقرارات الضمنية المسبقة حول المؤتمر، لكل مكون من مكونات الوفد المعارض من جهة أخرى، ما يسمح لنا بالعودة إلى الحديث عن ضرورة انعقاد مؤتمر وطني سوري، يتيح مشاركة كل الشرائح السورية المعارضة باتخاذ قرار يقوي الوفد، ويدعم مواقفه سواء الرافض للمشاركة أم القابل بها، بعد أن أصبح هذا من الوفد دون أي مساندة دولية حقيقية تذكر، وأصبح لا يملك ترف الاختيار أصلاً، لأن كل ما يتعرض له اليوم يصب في خانة إما أن يكون موجوداً، أو يتم تصنيع البديل، وعن أي بديل نتحدث؟