من جيل الثورة .. إلى جيل الصحابة

  • 2012/06/17
  • 6:03 م

طريف العتيق

بَنت الثورة خلال أشهر نموها ونضجها، وعيًا جديدًا في مجتمعنا السوري، وقد تبيّن لنا لاحقًا أن هذا البناء هو الأصعب في الثورة، وهو العمل الأكثر أهميةً وقدسيةً، لأن هذا الوعي هو الكفيل الوحيد في استثارة الهمم، وتفجير الطاقات، وتسخيرها لخدمة أهداف الثورة.

وهذا الوعي الثوري الجديد قائم على عدّة مفردات، لعلّ أهمها: الحرية التي هي المطلب الأسمى للإنسان وبها وجوده ولا حياة بدونها، الكرامة وهي أبسط وأهم الحقوق المُداسة في هذا الوطن، الموت في سبيل تحقيق الحرية حياة، التحرك الجماعي أعظم أداة بيد الجماهير، التضحية فَلاحٌ، الخدمة العامة شرفٌ عظيم، كلٌّ يخدم الثورة بما يتقن، لا عبودية إلا لله، المظاهرات السلمية نشرت وعي الثورة في كل أرجاء الوطن، السلاح هو الكفيل بتطهير البلد من ظلم النظام، الله معنا وهو نصيرنا، العالم يخشى من ثورتنا ولا تهمه دماؤنا ولن يضرنا خذلانه.

هذا الوعي، وهذه المفردات لم يتم إلقاؤها من منظّرين بعيدين عن الواقع، بل هي نتاج التفاعل المستمر بين منظومة فكرية مغروسة في وجدان الأمة (تعرضت لتشويه وتحريف كبيرين من قبل أدوات النظام خلال العقود الماضية. بل القرون الماضية!)، وبين معطيات الواقع وإفرازاته، وهذا التفاعل لم يكن سهلًا، بل أحاطته نقاشات طويلة جدًا ومعاناة أطول، فالمفردة الأولى -مثلًا- من وعي الثورة (الحرية) تم مواجهتها من قبل الآباء (وسلطتهم)، ما هي الحرية ؟ نحن نعيش ولا ينقصنا شيءٌ ؟ من منع عنك حريتك ؟ لماذا تريد الحرية ؟ …

ومفردة (التحرك الجماعي) أحاطها نقاش طويل في بداية الثورة، حول جدوى التحرك، وفعاليّته، وتشكيك بإمكانية انضمام الآخرين له، وثقافة (الحيط الحيطوياربي السترة، ما لنا دخل، ما خصّنا) ..

ولعل مفردة (السلاح) هي واحدة من أكثر ما أثارت من نقاشات مطولة للغاية، بعضها عائد الى طول حياة الدعة والتكاسل وغياب مفردات الجهاد والمواجهة (بالمعنى الشمولي للكلمة، أي النضال) في الثقافة العامة، وبعضها يعود إلى التخوف من أننا ندخل الساحة التي لن نربح بها، فالنظام هو مالك السلاح الوحيد، وبعضها الآخر يعود الى إدراك طبيعة المجتمع وأطيافه المتعددة، وخطر الانزلاق إلى مواجهات دموية لا تنتهي مع الطائفة العلوية.

وأيضًا مفردة (خذلان العالم)، تطلبتوقتًا طويلًا، فكم انتشت الجماهير بتصريحات أردوغان في أول الثورة، وتصريحات ‹أبو متعب› في رمضان الماضي، وغيرهم الكثير، ثم تبين لاحقًا أن هذه الثورة أخلّت بالتوازنات والمصالح الدولية، وأن من يدعمها فهو يفعل ذلك مضطرًا تحت تصاعد قوى الثورة الذاتية.

معركة العقول، ثورة الثقافة والوعي، هذا الحراك الخفي، هو الثورة حقيقة، هو جوهر الثورة، ومحركها وضامن نجاحها.

لذا يبرز السؤال هنا : بعد التحرير كيف السبيل إلى استكمال أهداف الثورة ؟ ومتابعة السير نحو تحقيق النهضة الحضارية المرجوة ؟

يمكننا أن نجيب عن هذا السؤال بسؤال آخر : كيف استطاع المسلمون الأوائل – جيل الصحابة – من تحقيق قفزة حضارية هائلة في فترة زمنية قياسيّة للغاية ؟

هل هو بسبب وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ؟ بالتأكيد كان لهذا أثر كبير، لكن غياب هذا الأثر لن يكون معيقًا عن تكرار التجربة لأن الرسول أرسل للعالمين ..

ببساطة الجواب هو ذاته الذي بدأنا به هذا المقال، إنه الوعي الجديد الذي تفاعل مع الواقع آنذاك للارتقاء به. لكنه ليس أي وعي، إنه الوعي القرآني.

لقد أُنزل القرآن الكريم، كوثيقة مقدسة، محفوظة، لا يأتيها الباطل، وبقيت قراءة هذا القرآن هي العبادة الوحيدة لعشر سنوات، وكان تعبد الله يتم بصياغة وعي جديد، ناتج عن التفاعل المتسمر بين المنظومة الفكرية القرآنية ومعطيات الواقع البشري.

هذا التفاعل أنتج العقلية القرآنية المذهلة، التي بنت جيلًا عظيمًا هو جيل الصحابة، وهذا الجيل هو الذي تمكن من بناء حضارة إنسانية يعرف كل منصف قدر عظمتها، وفي فترة زمنية قياسية.

ونحن اليوم على أعتاب هذا الانفراج التاريخي في مسيرنا الحضاري، نملك الفرصة الذهبية لإعمال العقل من جديد في النص القرآني لإنتاج وعي جديد يحقق القفزة المنشودة.

مقالات متعلقة

فكر وأدب

المزيد من فكر وأدب