عنب بلدي ــ العدد 132 ـ الأحد 31/8/2014
لم تشأ الأقدار أن يرى طفلته المقبلة على الدنيا منذ أيام، ولا أن يودع ابنه ذا العامين، حتى والده المعلم لأجيال جبلة بمختلف طوائفهم لم يشفع له؛ التهمة التي قتل لأجلها والسكين التي يذبح بها أبناء جبلة ببطء هي انتماؤهم للتعايش المشترك في ظل البعث، خطفٌ ثم فديةٌ فقتلٌ ليستيقظ أهلُ جبلة بين يوم وآخر على نفس الرواية مع اختلاف أبطالها.
إنه الشاب معتز ليلى ذو السابعة والعشرين عامًا، أبٌ لطفلين وأخٌ لشهيد وأخ لزوجة شهيد وآخر الأبناء لوالده، خطف قبل عشرين يومًا من الآن، وطلب الخاطفون من أسرته مبلغ 20 مليون ليرة سورية مقابل إطلاق سراحه.
ومثل بقية القصص يتلاعب الخاطفون بأهل الفقيد ليكون المصير واحدًا في النهاية “استلموا جثة ابنكم في المكان الفلاني” مرفقةً ببعض العبارات الطائفية التي يبررون بها قتله ويتوعدون من خلالها بحملات جديدة.
يتوافد أبناء جبلة للتشييع وقد ملأ الخوف والحقد قلوبهم، تضج الأصوات وقد أرعبتها قبضة النظام المخيفة، والتي تمكنت من اعتقال شباب الثورة بسبب كتابتهم على الجدران، أو لمجرد مشاهدتهم قنوات المعارضة على التلفاز، في حين عجزت عن إمساك بضع أسماء امتهنوا القتل الطائفي منذ عامين وأزهقوا ما يقارب العشرين قتيلًا.
قد لا يبدو الأمر غريبًا عند وليد أحد سكان المدينة “فالعصابة خرجت من رحم المؤسسة الأمنية، وتعمل بتوجيهها”، ويتساءل وليد “تخيل أن يكون الأمر معاكسًا؛ شاب من قرى جبلة يُختطف على يد أحد أبناء المدينة من الطائفة السنية، عندها لن يبقَ شابٌ إلا ويعتقل”.
يعزز وليد روايته بأسئلة أخرى “بعد أكثر من 20 جريمة ماذا فعل الأمن في مدينة جبلة سوى ملاحقة الصبيان الذين كتبوا بعض العبارات المطالبة بالحرية على الجدران، هل قدم تعويضًا لأهل الضحايا، لماذا يتم اختيار الموسرين من أهل المدينة تباعًا؟”.
لا يجد وليد مبررًا سوى “مشاركة الأمن بهذه الجرائم بالتخطيط لها أو بالتستر عليها وحماية الفاعلين في أضعف الأحوال”، والغاية كما يعتقد “إرهاب أبناء المدينة ودفعهم للنزوح”.
هنا في جبلة “ضاقت الحلول بأهلها” كما يصف محمد الطالب الجامعي المتخرج حديثًا، فقد “ابتعد معظم الشباب عن أي نشاط ثوري ولم تتوقف الاعتقالات يومًا، ولم نعد نملك الجرأة للخروج خارج المدينة بسبب عمليات الخطف”.
كما أن التبادل التجاري انخفض إلى مستويات متدنية، بسبب عزوف أهل القرى المجاورة الذين كانوا العصب الرئيسي للسوق عن الشراء.
“صحيحٌ أننا لم نعهد براميل الموت مثل بقية المناطق، لكن أهل جبلة يذبحون ببطء وبصمت” كما يقول محمد، لذلك فضل بعض الأهالي الميسورين مغادرة المدينة، “لكن لا طاقة لمعظمنا على تكاليف النزوح، ولن نتركهم يحققون مرادهم بتهجيرنا”.
لا يختلف واقع الحال عند ضحى التي تواجه تحديًا من نوع آخر، فهي كغيرها من المدرسين أبناء المدينة مضطرة للذهاب لقرى جبلة لممارسة مهنتها، لكنها تتعرض إلى كلمات تصف طائفتها “بالإرهابيين”، ما جعل الخوف يعتريها كل لحظة من أن تكون الضحية القادمة.
لم تكن حادثة مقتل معتز الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، إذ شهدت المدينة سلسلة من حالات الاختطاف الطائفية على مدار أعوام الثورة، وغالبًا ما يرتكب هذه الجرائم شبيحة تابعون للنظام السوري على رأسهم هارون الأسد، أحد أفراد الأسرة الحاكمة.