سوريا ومأساة التعليم الديني

  • 2017/12/10
  • 1:22 ص

إبراهيم العلوش

تصوروا لو أن علم الطب -مثلًا- كان تعليمه مثل التعليم الديني في سوريا، حيث لا يدخل الى كلية الشريعة، منذ الثمانينيات، إلا حملة العضوية العاملة بحزب البعث، ومهما كان مستوى نجاحهم في الثانوية العامة، ومن يدخل من غير هذه الفئة، فإنه مستهدف بالتقارير الكيدية، وبالشبهات الكثيرة.

تصوروا لو أن الطب تُرك للطب الشعبي، وللهواة، أو للمرتزقة من القرباط، ومن عابري السبيل، الذين يخلعون الأسنان بالبنسة وبمفك البراغي، أو بالرقية الدينية. كم من المآسي ومن الأوبئة كانت ستعصف بالوضع الصحي في بلادنا وكم من الكوارث كانت ستتلاحق علينا وعلى الأجيال القادمة.

لقد تُركت العلوم الدينية خارج العصر، وظلت حبيسة التاريخ، ورهينة الارتزاق والتلاعب السياسي، ولم تدخل عقول موزونة إلى مجال دراسة الدين، وإصلاحه وإبعاده عن المرتزقة واللصوص، بل وحتى المجرمين أمثال داعش وغيرها من حثالات الأرض ومن الأفاقين.

ينطبق هذا الوضع المأساوي على وضع تعليم الدين الإسلامي وبكل طوائفه، حيث ظل شيوخ الطوائف يحتكرون المعرفة الدينية والتلاعب بها، وتأجيرها للسياسيين، وللعسكر ولأجهزة المخابرات، وحتى للدول الخارجية، يرتزقون بتعاليمهم وبآرائهم المؤثرة على المجتمع، ويبيعونها بأبخس الأثمان من أجل أهدافهم الشخصية والآنية.

منذ الستينيات انفجر العداء للدين عبر التيار القومي، والتيار الماركسي، وتزاحما على تحقير القيم الدينية واعتبارها “مجرد أفيون لإلهاء شعبنا العظيم عن معارك الشرف القومية”، أو “تعطيل قوى البروليتاريا، ووقف زحفها في بناء الأممية الاشتراكية التي تكتسح العالم وتطرد الرجعية والإمبريالية إلى جحورها”.

ورغم أن التيارات القومية، وحتى الماركسية، تصالحت في كثير من بلدان العالم مع المعتقدات الدينية، وحيّدتها عن الصراع السياسي، ظلت الأحزاب القومية والماركسية السورية تضع في أولوياتها مهمة إلغاء الدور الديني إلى درجة العدمية التامة، حتى الثمانينيات، حيث انفجرت الأحداث في حلب وحماة، وتحالفت بعض الأحزاب الماركسية مع حزب الإخوان المسلمين، مستثمرين الأثر الديني في تحقيق أهداف سياسية وضعت النظام على المحك، وعرّت وجوده المرتكز على القيم الطائفية، التي اتضح أنها كانت وراء العدمية ضد الطوائف والتيارات الدينية الأخرى.

ومنذ الثمانينيات في القرن السابق انبثقت في كل جوامع سوريا، معاهد الأسد لتعليم القرآن الكريم، وصدرت أوامر علنية للبعثيين بارتياد الجوامع، وعدم تركها حقلًا للاستثمارات المعارضة، وزرعت المخبرين في كليات الشريعة، وفي حلقات الذكر الدينية بكل أطيافها الصوفية والأصولية، وقد انتصرت المخابرات السورية منذ الثمانينيات ليس فقط على المعارضين السياسيين، بل لقد أممت الدين لصالحها، وصارت تتاجر برموزه، التي تجتهد في النفاق والدعاء للقائد الخالد إلى درجة مقيتة. وصارت تبيع معلوماتها للأجهزة المخابراتية العالمية، وتستثمرها في العراق أو في غيره، وتقدم نفسها كحامية للعلمانية المزعومة، وللقيم الحديثة المدججة بالتعذيب والتدمير.

وبالإضافة إلى مجالس الطوائف السرية التي تستثمر في الدين سياسيًا، واجتماعيًا وعسكريًا، كان لحزب الإخوان المسلمين باع طويل في استثمار الشعور الديني، وتنمية النقمة الدينية على النظام، والتي تأججت لتصل إلى حرب طائفية، ولكن جماعة الإخوان المسلمين لم تستثمر في التعليم الديني، ولم توسع آفاقه، ولم تعمقه ليكون على مستوى تحديات العصر وتقلباته الشديدة، بل كان هدف التنظيم سياسيًا، وكان حصد الأتباع في الجوامع هو الهدف الأكبر، حتى انقلب هذا الاستثمار مع الزمن إلى مجرد تحريض طائفي، زاد وطأة التخريب، والتشرذم الاجتماعي.

أما الحركات الأصولية والمسلحة، كانت أهم المستثمرين في الجانب الديني والطائفي في سوريا، فقد جندت في صفوفها حملة السلاح، والمتطرفين الشرعيين، الذين أسهموا في بناء تنظيمات داعش، والنصرة، ومشتقاتهما التي لا تؤمن بالبشر، ولا بكرامتهم، وتعتبر انتزاع السلطة هو الجهاد بعينه، واعتبرت إرهاب العالم وتخويفه هو الحامي لاستمرار الدين، بحسب فتاويهم وتصوراتهم المنبثقة من نظريات مافيا المخدرات، ومن تجربة التنظيمات الماركسية والقومية المتطرفة التي انتشرت في العالم إبان الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مثل الألوية الحمراء الإيطالية، والجيش الأحمر الياباني، وتنظيم كارلوس وأبو نضال وغيرها.

في الجانب الطائفي، المقابل للأصولية الإرهابية، نشأت تنظيمات الشبيحة المرتكزة على روح التأجيج الديني الطائفي، والتي تمرس بها قادة الطوائف السريون، وأعدوا لها العدة، عبر تقربهم من السلطة واستمالة قادة أجهزة المخابرات، وتأجيجهم للتعذيب وهدر كرامات الناس، وتعفيش بيوتهم، وأرزاقهم، في حرب طائفية وحشية، أباحت حتى استقدام المحتلين الى البلاد السورية، وذلك نكاية بمطالبة الشعب السوري بحريته، ومطالبته بكف أيدي الطائفيين وتعليماتهم السرية، ومنع أجهزة المخابرات والعسكر الطائفيين من التحكم بحياة الناس اليومية.

ظل في الشارع التعليمي، التعليم الديني الشعبي الذي تتوارثه الأجيال ويزداد خيالًا وانفصامًا عن الواقع جيلًا بعد جيل، وانقلب إلى السحر، وإلى التصوف الذي ارتبط الكثير منه أخيرًا بفروع المخابرات منذ الثمانينيات.

وتستولي اليوم جمعيات دينية خليجية على أبناء المهاجرين واللاجئين وتغذيهم بالنزعة المتطرفة التي مولت داعش سابقًا، وهذه الجمعيات تعيد تجربة الجمعيات الخليجية القديمة في زراعة طالبان جديدة ضمن أوساط السوريين الفقراء واليائسين.

كما تستولي إيران على الأرامل والأيتام، وتستثمر في نقل ولائهم الطائفي، لتفاوض عليه لاحقًا، كقوة وازنة وموجودة على أرض الواقع، وخاصة في الساحل السوري ومحيط حمص ودمشق.

الإصلاح الديني الأوروبي لم يأت من فراغ، بل كانت هناك جهود كبيرة، وعقول عبقرية تكاتفت عبر أجيال، وأسهمت بانتزاع التدخلات السياسية، والإجرامية، من صفوف التدين، ومنعت نزعة بعض قادة رجال الدين العدوانية التي تجلت في الحروب الصليبية، وقبلها في محاكم التفتيش.

لن يكون لدينا دولة مواطنة وحقوق متساوية، ما لم يجر إصلاح ديني حقيقي، يمنع التحكم السياسي بالدين، ويمنع التعليمات والفتاوى السرية للمجالس الطائفية، وما لم يتم نشر كل الأوراق الدينية ولكل الطوائف، وجعلها متاحة بشكل علني وللجميع.

دولة المواطنة هي سبيلنا لوقف الحرب المستعرة في بلادنا، ووقف الحروب المذهبية والطائفية التي يتم تأجيج أحقادها منذ عصور طويلة، فالدين ساحة للروح وللنفس وللطمأنينة وليس ساحة للتنظيمات الجهادية الأصولية ولا لأحقاد المجالس الطائفية السرية.

لقد تكاتفت هذه القوى التي تحتكر التعليم الديني، وتتحكم به من أجل المساهمة بالخراب، واستثمار هذا الخراب في مكاسب ذاتية وأنانية مدمرة. ولا بد من نزع الاحتكار الديني منها، من أجل وقف هذه الحرب وبناء دولة وطنية حديثة يتساوى فيها الجميع.

مقالات متعلقة

  1. رجال الدين ومديح الموت
  2. غضب "كورونا"
  3. حق الإجهاض وحق الموت
  4. الزلازل السورية

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي