جودي سلام – بيروت
تشكل معاملات تسجيل الزواج والأطفال أو الطلاق بشكل قانوني عبئًا على الأهالي في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد أو في دول اللجوء، حيث ينشأ العديد من الأطفال دون اسمٍ وهوية رسمية معترف عليها أو جواز يسمح لهم بالسفر، لذا يضطر الأهل في غالب الأحيان إلى الاستعانة بأحد السماسرة مقابل مبالغ مادية طائلة؛ بينما أضاف الحرمان من تثبيت الزواج في المحاكم معاناة أخرى إلى زوجات الشهداء، وصل في بعضها إلى التخلي عن الأطفال.
- معاملات مستحيلة
وأدى خروج المناطق عن سيطرة الأسد إلى إهمال المؤسسات الحكومية والبلديات والنفوس، وسط محاولات من الهيئات الشرعية والمجالس المحلية البديلة لتوثيق حالات الزواج والطلاق والولادات، إلا أن هذا التوثيق يبقى غير معترف به في مؤسسات الأسد أو خارج سوريا.
محمد، أحد ناشطي مدينة داريا المحاصرة في ريف دمشق، يقول لعنب بلدي أن بداية الحملة العسكرية على المدينة (قبل ستنين تقريبًا) شهدت توقفًا في تسجيل الولادات، أملًا بفك الحصار واستئناف الأمر في الدوائر الحكومية.
إلا أن استمرار الحصار لفترة طويلة اضطر المجلس المحلي في المدينة، لتسجيل الأطفال ضمن سجلات خاصة والاحتفاظ بها لدى أحد الأشخاص المؤتمنين، ريثما يتسنى للأهالي تسجيل أطفالهم بشكل قانوني.
بينما لجأ المتزوجون حديثًا إلى عقد قران عرفي، كما حدث مع “عبير” التي تزوجت مؤخرًا مقاتلًا في الجيش الحر في داريا، وتقول إن الورقة التي سجل فيها اسمها واسم زوجها وتاريخ الزواج وأسماء الشهود فقط، لا تضمن حقوقها ولا تخولها لتسجيل أطفالها.
وفي بعض المناطق المحررة عمدت الهيئات الشرعية المنشأة حديثًا إلى تسيير أمور الأحوال الشخصية، وبحسب “لمى” إحدى السيدات في مدينة دوما، فإن الهيئة في الغوطة الشرقية توثق الزواج على ورقتين، نسخة للعروسين والثانية تحتفظ بها، كما تعطي بيان عائلي للأطفال المولودين حديثًا.
لكن لمى تردف أن “المصيبة تكمن إذا اضطرت إحدى العائلات لمغادرة الغوطة، فليس هناك شيء قانوني يثبت هوية الطفل أو يضمن حقوق المرأة”.
ويعزو أغلب الذين التقتهم عنب بلدي والذين لا يستطيعون إتمام معاملاتهم لدى حكومة الأسد الأمر لسببين رئيسين، إما صعوبة الخروج من المناطق المحاصرة، أو لأسباب أمنية متعلقة بالتهم الموجهة لمعظم شباب هذه المناطق بالثورة وحمل السلاح في وجه النظام، أو لتخلف الشباب المتزوجين عن الالتحاق بقوات الأسد.
- بعد الولادة بأسبوع، تركت ابنها
وتعدت المسألة في بعض الحالات من الحصول على أوراق ثبوتية إلى مشاكل اجتماعية، كما حدث مع “ريما” البالغة من العمر 17 عامًا، إذ تزوجت “محمد” وهو مقاتلٌ في الجيش الحر انشق عن قوات الأسد بداية الثورة.
ولم يستطع الزوجان تثبيت الزواج لأن محمد لا يحمل هوية شخصية؛ ولم يمض على زواجهما مدة قصيرة حتى استشهد الزوج في إحدى المعارك، وريما حاملٌ في الشهر الرابع.
بدوره عرض أبو محمد (والد الزوج) على ريما أن يسجل الحفيد على اسم الجد وفي دفتر عائلته، لكن ريما تخشى من المستقبل “إن سجل عمي الطفل على اسمه، فماذا أفعل إن اختلفت معهم، سيرمونني في الطريق… أنا متزوجة بطريقة غير شرعية ليس لدي أي حقوق”.
لكن أبو محمد أبدى عجزه أمام الموقف “أكثر ما أستطيع فعله هو أن أسجل حفيدي على دفتر عائلتي؛ زوجة ابني مثل ابنتي ولن نتخلى عنها”.
في النهاية فضلت ريما ترك مولودها بعد الولادة بأسبوع رغم معاناتها من فراقه “لا أريد أن أتعلق به أكثر، لا يوجد أي شيء قانوني يربطني بهذه العائلة”، وأردفت “حتى طفلي الذي حملته وتعذبت بولادته لا أستطيع أن أمنحه اسمي… تركه من الآن أفضل لي وله، وقد تعطيني الحياة فرصة أخرى لأستطيع العيش بهدوء”.
- سماسرة الدوائر الحكومية
ولم تتمكن نور اللاجئة إلى لبنان من تثبيت زواجها في سوريا، بسبب تخلف زوجها عن الالتحاق بجيش الأسد، لكنهما رزقا بطفلٍ بلغ 6 أشهر، ولم يتمكنا إلى الآن من استصدار “دفتر عائلة” وتسجيل الولد.
لذلك حاول الوالدان تصديق “وثيقة الزواج” من النفوس والخارجية اللبنانية والسفارة السورية في لبنان، ثم إرسال الطلب إلى سوريا لاستصدار الدفتر، إلا أن “روتينية المؤسسات الحكومية في لبنان وإضراب الموظفين عن العمل” منعهما من إكمال المعاملة، بعد 3 أشهر من الدوران من مؤسسة إلى أخرى.
ولم يبق خيار أمام العائلة سوى توكيل “معقّب معاملات” بإكمال المهمة، رغم أنه سيتقاضى مبلغ 300 دولار، لمعاملة لا تكلف أكثر من 50 دولارًا، وما زال المعقّب يعدهم بأنه سينجز المعاملة خلال أيام دون أي تقدم.
وكانت نور سألت أحد المحامين في سوريا عن إخراج دفتر العائلة، فأشار لها بصراحة أن الأمر يتطلب “الكثير من الرشاوى والمعاناة… لن تكون التكلفة أقل من نصف مليون سوري (3000 دولار تقريبًا)، لكنها تقول “لو كلفني الأمر مليون سأدفع، حتى لا يبقى ابني دون اسم أو هوية”.
ويقع المضطرون لتسيير معاملاتهم تحت رحمة السماسرة الذين يطلبون مبالغ كبيرة مقابل خدمات تأخذ ساعات قليلة في الدوائر الحكومية، وقد تمكن هؤلاء من افتتاح مكاتب فارهة في دمشق (خصوصًا في ساحة المرجة) على مرأى من نظام الأسد.
- تسجيل الجمعيات والأمم المتحدة
بدورها تحاول المنظمات الإنسانية ومفوضية الأمم المتحدة توثيق حالات الولادة والزواج في سجلاتها، وتحصي منظمات أخرى تعداد السوريين في المخيمات ومناطق اللجوء، إلا أن ما يفعله الطرفان لا يتعدى محاولةً لتأمين مستلزمات الأطفال وإحصاء النمو السكاني في المخيمات.
ولم نستطع الوصول إلى إحصائية دقيقة لعدد الأطفال المولودين حديثًا والمسجلين فقط في مفوضية الأمم المتحدة في بلاد اللجوء، إلا أن المفوضية أعلنت في نيسان الماضي أن عدد الأطفال السوريين في لبنان وصل إلى 500 ألف طفل، تحاول تأمين فرص للدراسة لهم.
ويطالب بعض الهاربين من حكومة الأسد والمعارضة بتسوية أوضاعهم الشخصية وتحييدهم عن الصراع، حتى يتمكنوا من إكمال حياتهم الطبيعية ولو في مناطق النزوح.
وقد بدأت سفارات الأسد بتسيير بعض المعاملات، لكن كثيرين مازالوا يتخوفون من مراجعة السفارات لما تقدمه من معلومات استخباراتية إلى نظام الأسد، في حين تتذرع المعارضة دائمًا بأن هذه المعاملات تحتاج “اعترافًا دوليًا”، لم تستطع الحصول عليه منذ 3 سنوات.
وهكذا يفتح الأطفال السوريون أعينهم على هذه الحياة، بلا وطن ولا اسم ولا اعتراف من أحد بحقوقهم في العيش والمواطنة، فهل سيتحرك المجتمع الدولي للضغط باتجاه إيقاف معاناتهم؟