حذام زهور عدي
لم ترتسم الحدود النهائية لدول شرق المتوسط إلا بعد الحروب العالمية الأولى والثانية، ولم تنجز استقلالها وتتحول إلى عضو فاعل في المجتمعات الدولية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، لكن مستعمريها الإنكليز والفرنسيين الذين تقاسموا الإرث العثماني لم ينسحبوا منها إلا بعدما تركوا ألغامًا فيها يفجرونها متى ما تطلبت مصالحهم ذلك، وكانت استراتجيتهم المفضلة لضمان سيطرتهم على ثرواتها هي تفكيك مكونات اللوحة الاجتماعية الجميلة التي كانت شعوب المنطقة قد رسمتها وأبدعتها منذ مئات السنين.
مع نهاية خمسينيات القرن الماضي بدأ نفوذ الاستعمار الأوروبي بالتراجع لصالح الزعامة الجديدة لما يُسمى “العالم الحر” الولايات المتحدة الأمريكية، التي سارعت لتسويق نظرية “ملء الفراغ”وارثةً نجاح استراتيجية التفكيك لمتابعة السيطرة على المناطق التي انسحب منها الاستعمار التقليدي القديم انسحابًا تامًا أو بقي محتفظًا بنوع من النفوذ يضمن من خلاله مصالحه.
مع انهيار الاتحاد السوفييتي تسارعت الأنفاس الأخيرة للنظام العالمي القديم، واشتدت أزماته الاقتصادية خاصة، وأصبحت الحاجة ملحة لإيجاد حلولٍ لها، فكانت نظرية العولمة التي أسهمت بقدر ما في تجاوز تلك الأزمات، وصارت المعبر الأهم لظهور نظامٍ عالمي جديد يعيد ترتيب المنطقة وفق ما استجد من المعطيات، ولا سيما بعد أن استلم بوتين الرئاسة الروسية مبديًا طموحاته القيصرية دون مواربة، حاملًا توقًا لدخول النظام الرأسمالي الحر بأوراق لا تقل أهمية عما تمتلكه دول النظام القديم وزعيمته المحدثة الأمريكية، يسّرتْها له إدارة أوباما وملالي إيران وتابعهم السوري.
مع تشكل النظام العالمي الجديد، ظهرت الحاجة للبحث عن الألغام القديمة وإعادة توزيعها بما يناسب المنظور الاستراتيجي لهذا النظام، الذي لم يختلف في جوهر منطلقاته الفكرية عن القديم، التي اعتمدت على ركائز ثلاث:
– مصادرة ثروات المنطقة والسيطرة على مواقعها الاستراتيجية.
– تفتيتها ومنع شعوبها من امتلاك القدرة على تنمية نفسها وتطوير مجتمعاتها، بخلق النزاعات الدائمة فيما بينها.
– عدم الاهتمام بطموحات تلك الشعوب أو بتاريخها أو مستقبلها أومدى تأثرها بدعوات العصرنة والحداثة… أو بما يلحقها من ظلم وفقدان ٍ للحرية والعدالة.
لقد تركت تلك الاستراتيجية تأثيرًا كبيرًا على الشعوب العربية، وسببت آلامًا من خلال منع التنمية والتطور عنها بزرع اللغم الإسرائيلي الأكبر في قلبها، إلا أن الشعب الكردي دفع أيضًا ثمنًا قريبًا من أثمان إخوته العرب، فكان رد فعله أن انسحب من المظلة الإسلامية وتبنّت نخبه المثقفة الأفكار القومية التي سبقهم الأتراك ثم العرب إليها، والتي أسهم الأتراك الاتحاديون بإشعالها.
سارعت تلك النخبة بجمع قبائلهم والتأليف فيما بينهم وإحياء لغتهم الشفوية ووضع أحرف تسهل كتابتها وتعلمها، لتوظف كعامل رئيسي في توحيدهم، وتحقيق ذواتهم، لقد بذلت تلك النخب جهودًا جبارة للوصول إلى لم الشتات وبلورة كيان جدير بدولة تعبر عنه، لكن مصالح النظام العالمي القديم خذلتها ولم تحقق لها أيًا من طموحاتها، بل جعلت حدود جيران التجمعات الكردية تحتويها، باعتبار الوضع التاريخي لشعوب المنطقة الذي لم يرسم الحدود في أي يوم من أيام تاريخه العريق على أساس قومي، لكن تلك المصالح -بالوقت ذاته- جعلت الأكراد ألغام المنطقة، حين ألحقتهم بإيران وتركيا والعراق، وأضافت بقعتهم الشمالية الشرقية إلى أقصى الخارطة السورية، فمنعت عنهم التنمية والتقدم كما منعتها عن العرب وعن شعوب المنطقة التي باتت تحبو من أجلها لتضمن حياتها ومستقبل وجودها، ثم تابعت مراقبتها لتلك الشعوب، فكلما أنجزت خطوة باتجاه التنمية عاجلتها بتفجير بعض ما زرعته من الألغام.
ليس سهلًا على الدول وشعوبها أن ينفصل عنها مكون رافقها في تاريخها كله، بصرف النظر عن المصالح والأنظمة العالمية، فقد استقرت التقسيمات السابقة على أنها نهائية كما استقر في أعماق شعوبها وحدة الوطن والمصير، وخارطات دول الكرة الأرضية مليئة بالشواهد على دول تحوي إثنيات منوعة وقوميات مختلفة ومذاهب وأديان بل ولغات شتى، لكنها ماتزال دولة واحدة لا يطلب أحد مكوناتها الانفصال عن الآخرين بالرغم من اتساع رقعتها كالهند والصين وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، ناهيك ما في الدول الأوروبية من فسيفساء تغني أصالتها حضارة تلك الدول، لكن أيضًا من جانب آخر لا يمكن أن نطلب من مكون، ظلمه نظام عالمي قائم على الغلبة والقوة وفق مصالحه، ألا يحقق الطموحات الطبيعية لشعبه، وقد ازدادت المسألة تعقيدًا عندما اندفعت القيادات الكردية السياسية في طرقٍ رسمها النظام الجديد لتكون ألغامًا جديدة تُفجر المنطقة كلها، وتعيد تشكيلها كما يرغب الكبار وأصحاب القرار في هذا النظام… وإلا ما معنى أن تندفع قياداتهم للاستيلاء على الرقة ودير الزور والموصل وسواها من المدن المعروفة تاريخيًا أنها عربية شبه خالصة؟ هل وعت تلك القيادات للفخ التاريخي الذي ينصبه الكبار لهم؟
من هنا نلاحظ أن ردود الفعل في المنطقة كلها كانت أشبه بالارتدادات التي يخلفها زلزال تعدى الثماني درجات على مقياس ريختر، وأن حمى إعلامية لعلعت لإعادة النظر بالحلفاء والأعداء وتصنيفهم وفق المعطى الجديد الذي بدأ يزيح الاهتمام بكل المآسي التي تعرض لها ومايزال الشعب السوري، فهل آن الأوان لتفجير الألغام المزروعة من الشمال للجنوب ومن الشرق للغرب؟
استفتاء البرزاني قرع جرس الإنذار للمنطقة كلها، سواء أكان يدري أم لم يكن، وسواء كان هدفه تغطية فساده وفساد من حوله من الأسرة والمنتفعين واللعب بمشاعر الشعب الكردي لتأمين إعادة انتخابه رئيسًا مطلق الصلاحية للإقليم، أو كنهاية موضوعية لما أقدم عليه، حتى ولو أنه قد انتهى إلى الغرق بتلك اللعبة – كما يبدو- وقد تكون استقالته قبولًا بمساومة اضطر إليها ليفتح بابًا يتملص فيه من لعبته. لكنّ حراك الدول الإقليمية كان أوسع بما لا يُقاس من لعبة البرزاني، وها هي المناطق المتعددة الإثنيات والتي حاول الاستيلاء عليها بالقوة واستكرادها وتهجير أهلها تعود إلى وضعها السابق بالرغم من التخويف المستمر الذي تمارسه القوى التابعة له.
لقد قفز مفهوم “الأمن القومي” لإيران وتركيا إلى أولى اهتمامات الدولتين اللتين أخفتا نفورهما الإيديولوجي المتمثل بالوضع السوري، وبدأت دول المنطقة تعيد حساباتها بالرغم من أن التجمعات الكردية بعيدة عنها، لكن من يدري أين يمكن أن تصل كرة الثلج الانفصالية بعد أن بدأت بالتدحرج من كردستان البرزاني وتلك الدول جميعًا تتربع فوق ألغامها؟
أما الشعب السوري فقد لمس تمامًا لمس اليد أنه إن لم يسارع إلى توحيد نفسه وحك ظهره بأظافره وحده، وإذا لم يبدع طرقًا لإنقاذ نفسه، فإنه هالك لا محالة. فألغام التفتيت قد تطال مجتمعه رسميًا بعد أن طالته واقعيًا.
لقد قرع البرزاني -إن كان ذاك هدفه أو لم يكن- جرس الإنذار، وأشار بأصبعه الكبرى أن ترتيب النظام الجديد للعالم قد بدأ، وأن العالم كله، وليس الشرق الأوسط وحده، معني به، وأنهم جميعًا دون استثناء سيكونون ضحايا المشاكل التي تركها النظام القديم بدون حل لتكون ألغامًا جاهزة للتفجير لحظة تشاء مصالحه.
أما أنظمة الدول الأكثر تأثرًا بهذا الترتيب، فيفترض أن تعيد النظر بمفاهيم أمنها القومي، وبتعاملها البيني الذي مايزال قائمًا على النزاعات، الألغام الكبرى، مثلما تعيد اليوم النظر بتحالفاتها الإقليمية والدولية، والأهم، أن تعيد النظر جذريًا بسياساتها الداخلية تجاه شعوبها حتى لا تصيبها ومجتمعاتها شظايا تفجير الألغام المزروعة سابقًا، ولتستطيع تكوين جبهة قادرة على منع النظام العالمي الجديد من زراعة ألغام جديدة… والمعضلة الكبرى أن معظم تلك الأنظمة غير مؤهلة للممارسة المطلوبة بسبب انفصالها عن شعوبها، فهي ماتزال تغط نومًا في أسرّة الكراسي المنتصبة فوق معادلة “عليّ وعلى من سيزيح الكرسي من تحتي”… آمين.