من الرقة السورية.. إلى “نيوم” السعودية

  • 2017/12/03
  • 12:41 ص

إبراهيم العلوش

تحررت مدينة الرقة من تنظيم داعش، وهي اليوم صريعة جراحها القاتلة التي قد تودي بوجودها، وتنهي مسيرة الحياة والبناء التي شقتها وسط البادية السورية، عبر آلاف السنين. وفي نفس وقت الإعلان عن تحرير الرقة، يتم الإعلان عن تأسيس مدينة سعودية جديدة هي مدينة “نيوم” عبر الإعلام، وعبر مواقع التواصل والصحف الغربية والشرقية.

مدينة الرقة حقيقة واقعة، فعذابات أهلها، ودمار بيوتها تتداوله وسائل الإعلام، جنبًا إلى جنب مع تداول وسائل الإعلام لتصورات الخبراء، والمسؤولين السياسيين، والتقنيين، عن “نيوم” التي يتم التخطيط لولادتها في عام 2030.

تحتاج مدينة “نيوم” السعودية إلى 500 مليار دولار لتولد على شاطئ البحر الأحمر بعد خمس عشرة سنة، أو أكثر من ذلك، بينما لا تحتاج مدينة الرقة لإعادة ولادتها إلى أكثر من نصف مليار دولار لتتجاوز جراحها، وتباشر بالعمل والإنتاج وإعادة تأهيل المكان والبشر، فالرقة تحدّت جفاف الصحراء، وتحدّت التهميش السياسي والاجتماعي، وولدت على شاطئ الفرات، مكملة دورها الحضاري الذي يمتد في عمق التاريخ إلى عصور ما قبل الكتابة.

مدينة “نيوم” المزمع ولادتها، تعتزم إنتاج التقنيات الحديثة، وتجميع الناس والخبراء عبر العالم للعمل فيها، بينما مدينة الرقة استطاعت، رغم محدودية مواردها، أن تلتقط ثورة الإنتاج الزراعي منذ الخمسينيات، وكان إنتاج القطن، والقمح، والشعير، وتربية الحيوانات، من أنجح المبادرات المتماشية مع روح العصر آنذاك، حيث تحول الناس فيها من رعاة وقبائل متناحرة، إلى مجتمع متمدن، يقبل الآخر، ويمتص تجارب مكوناته بلا عنصرية، وبلا تعصب، وسجلت الرقة أرقامًا قياسية بالنسبة إلى وضعها في عدد المتعلمين، والخريجين، وصار اسم الرقة من بين الأسماء المتفوقة في التعليم على مستوى سوريا، ومهندسوها وأطباؤها وخريجوها من خيرة خريجي سوريا، وبرع الكثيرون منهم في المملكة العربية السعودية نفسها، وأثبتوا جدارتهم وصدقهم في العمل، والإنتاج العملي، وفي العلوم البحتة.

زيارة الوزير السعودي ثامر السبهان للرقة بعد تحريرها، كانت مؤشرًا إيجابيًا، وبعثت الآمال في مبادرة سعودية تتكفل بإعادة إعمار الرقة، المدينة التي تتقارب في نسيجها القومي والديني، وفي عاداتها وتقاليدها مع المجتمع العربي في الخليج كما مع المجتمع السوري نفسه، ومحاربتها للإرهاب الذي تدفق عليها من كل أنحاء العالم، بمن فيهم متطرفو منطقة الخليج الذين أمدوا داعش بالكثير من الشرعيين والانتحاريين. وكان الفشل الذريع لدولة داعش في الرقة إيذانًا بانحسار موجة الإرهاب الديني الذي تسلّط إيران إعلامها وحججها ضد العالم العربي بسببه.

التحالف السوري السعودي المصري، كان عبر تاريخ المنطقة، من أهم عوامل استقرارها، ولكن عائلة الأسد اتجهت إلى إيران، وروسيا، ووضعت النظام تحت إمرة الدولتين اللتين صارتا تتباهيان بحجم الدمار الذي تلحقه كل واحدة منهما بالشعب السوري، وبالمدن والقرى السورية، باعتبار السوريين خونة، وعملاء، كما يردد نظام الإجرام الأسدي.

وهذا التملص الأسدي، لا يلغي حقيقة أن المملكة العربية السعودية، بإمكاناتها وبثرواتها الكبيرة، بحاجة الى طوق من الدول، والمدن التي تتبادل معها المصالح، والحماية ضد الأخطار الخارجية، أسوة بالتحالفات الدولية المبنية على المصالح المتبادلة، فتمويل الولايات المتحدة لكوريا الجنوبية، مكنها من الوجود القوي في منطقة شرق آسيا، وكذلك دعم الفرنسيين لدول في أفريقيا، مكنهم من الوجود القوي في أفريقيا، وهكذا تفعل الصين في شتى دول العالم، وكذلك تقوم إيران بدعم بعض القوى والأحزاب لمد نفوذها في لبنان وفي اليمن وغيرهما.

الرقة اليوم مدينة سورية موجودة على أرض الواقع، وجراحها العميقة تحتاج إلى المساعدة الفورية والرعاية الأخوية، وهي جزء من التحالف التاريخي الذي ربط المنطقة وحماها، والاستثمار في هذه المدينة، وفي المدن السورية، هو ما سينزع سوريا من القبضة الإيرانية، والهيمنة الروسية، وسيجعل عائلة الأسد ونظامها مجرد رمز للاحتلال الأجنبي، والمذهبي، الذي سيفشل، كما فشلت داعش في الرقة، وستفشل في كل سورية حتمًا.

المدن والدول المحيطة بالمملكة، وكوادرها العلمية والبشرية هي خير من يحمي نفوذ المملكة من الهيمنة الإيرانية التي تحاصر العالم العربي، والمدن الخيالية جزء من حلم الإنسان عبر التاريخ، ولكنها لن تنجح أبدًا ما لم تستثمر في كوادر أبناء المنطقة، وفي تحفيزهم على المشاركة العلمية والحضارية، فخبراء مكاتب الدراسات الدولية كثيرًا ما يزيّنون الأخيلة ويبالغون في التوقعات، وما مآل مدينة الملك عبد الله على البحر الأحمر إلا مثال على ذلك التخطيط غير المرتبط بكوادر المكان، ولا بقدرات المنطقة العربية، فبينما كان يخطط الخبراء صرف مئة مليار دولار ليجلبوا مليون نسمة من القوى العاملة الفنية، والتجارية، والاستثمارية، لم تستطع كل تلك الصرفيات استجلاب ما هو متوقع منها، وهذه مفارقة كبيرة بين الخيال والواقع.

استثمار نصف مليار في إعادة تأهيل الرقة، لن يعيق الخمسمئة مليار في ولادة مدينة “نيوم” السعودية، ولن يؤثر أبدًا على مخططات ولادتها القادمة، والتي نأمل جميعًا أن تكون مدينة حديثة، تضم كوادر أبناء المملكة، وأبناء المنطقة من الشباب المبدعين، والمتطلعين إلى آفاق مستقبلية، ورفاهية علمية، وحضارية، تشمل دول وشعوب المنطقة، وتسقط عنهم تهمة الإرهاب، والاحتباس في التاريخ، وفي الأوهام الأسطورية.

الرقة اليوم جريحة، وكوادرها البشرية، والعلمية، وطاقاتها تحتاج إلى من ينتزعها من الهيمنة الإيرانية، ومن الهيمنات القومية الأخرى، وتحتاج من يعيد إليها مناعتها التي جعلتها تستمر عبر آلاف السنين، ضمن حضارة ما بين النهرين، التي كانت في سوريا، وفي العراق، مع الحضارة المصرية، ومع الحضارة الإسلامية القادمة من شبه الجزيرة العربية.

الرقة جريحة اليوم، ولن تنسى من يمد إليها يد المساعدة، ولا من يداوي جراحها العميقة، وستكون عونًا لمن يساعدها على الشفاء، ولمن يساعد أهلها على التشبث بالحياة وبالأمل.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي