الفكر الإسلامي بين تضييق الطغاة والمؤسسات الكهنوتية
عنب بلدي ــ العدد 130 ـ الأحد 17/8/2014
أفاق شباب الأمّة مطلع القرن متأخرين قليلًا، ليُفاجؤوا بأن هناك من أفاق قبلهم وأعدّ لهم، من ضمن ما أعدّه، قالبًا دُبّر أمره بليل يضمنُ عزلهم التام عن مطالعة الصراع والحروب الغربية الشرقية وقراءتها بالمنظور الصحيح، ويزينها لتبدو صراع النفط والمصالح دون الديانة.
قالبًا ضمّ أنظمة حكمٍ طاغوتية محاطًا بعدة مؤسسات دينية كهنوتية جثَمت لسنين طوال وخيمت برتابتها وبلادتها على عقول أبناء الأمة قبل قلوبهم.
آنذاك كان العُرف السّائد قدْ أحاط تلك المؤسسات بهالة من التقديس والتنجيم، تقتضي التحذير من المساس بها أو القدح بما تنطقه ألسنة أصحابها أو إنكاره عليهم، كما كنيسةُ الكاثوليك في العصور الوسطى في أوروبا.
واستلزم لإتمام ذلك إخمادُ شعلة التساؤل ونقد الواقع في نفوس شبهابها، تلك الشعلة التي كانت ستكسر كثيرًا من الأغلال الوضعية والمسلّمات مسبقة الصنع، لو خلّوا بينها وبين فطرتها.
فسخروا لخدمة غايتهم مناهج التعليم التلقينية الموضُوعة بدراية وتدبير، والخطابات الدينية المسمومة المدسوسة في جيوب سَدَنة المؤسسات.
ولقد تسابق هؤلاء وألقوا أقلامهم أيّهم يضع الوصاية ويجثم أولّاً ويسكبُ الولاء في عقول المجتمع؛ ولا يمكن تغطية الشمس باليد فقد تكللت وصايتهم بالنجاح.
لم يكن الشباب آنذاك يتمتع بالقدر الكافي من الوعي والإدراك حيال مكامن واقعهم، فقد كان ذلك كفرًا يستوجبُ زجّ فاعله في غياهب السجن تبعًا لسياسة الأنظمة الطاغوتية، التي لطالما كانت المؤسسات الدينية سياجًا مرخصًا ومؤصلًا شرعيًا لأفعالها ومباركًا لها.
وكانت هذه السياسات كافية لكبح جماح فطرة التساؤل وبذرة التحرر العقلي، التحرر من أطواق العبودية الفكرية وممارسة الدين ذي الاتجاه المذهبي الواحد؛ وحده لا شريك له، والمُرتكز على تقديس وصومعةِ شخصيّات دينية ما أنزل الله بقدسيتها من سلطان تكفي الشباب مؤونة التفكير.
لكنّ الأحداث التي اجتاحت الشرق الأوسط، ولم يكن أولها أحداث سبتمبر، وبفعل التقلبات التي ترتبت عليها عامّة، كانت الشرارةَ التي نزعت لثام الخطاب الغربي المزيف، وكشفت عدوانيته المتوارية وسوءته. إذ حملت معها من الحملات التحريضية الإعلامية ما نزع الحجاب عن لكنة تمتلئ حقدًا على الإسلام وثوابته وأفكاره، وتسعى لقراءة بعض مبادئه بلسان لثغ، بغية تشويه صورته.
ليبدأ الشباب على إثرها بالبحث فيها وبمدلولاتها ليفهموا الحكاية، ويجدوا واقعهم محسورًا عن صراع شيعي سني إعلامي أدارته تلك المؤسسات التي تعنى بذلك من كلا الطرفين، فأذاب ذلك شيئًا من الخيط الفاصل بين أذهان الشباب وأغوار الواقع، وبدت عقولهم مهيأة قليلًا لتحمل ثقلًا أكبر ووجبة سياسة أثقل، حملتها لهم ثورات الربيع العربي في سنين أربع، زوّدتهم فيها بخلاصة تجارب مئة سنة سبقت. فانحدرت الثورة إلى انقلاب عسكري في مصر، وإلى تشارك سياسي في اليمن، وحرب أهلية في ليبيا، وتطرّف جُزئي في سوريا.
والأكثر غرابة هو سرعة نمو ذاك التطرف، والذي تبين بعد طول بحثٍ أن البذار الأكبر لنشأته إنما كان تلك المؤسسات الكهنوتية، والتي احتكرت فهم الحق وقذّعت بما سواها من المؤسسات الإسلامية الأخرى المعتدلة، بالتشارك مع كبت السياسات الطاغوتية.
هذا ما أظهرته على الأقل باكورة التساؤل؛ تكفيرٌ وحدود واختلاف، وأشياء شبيهة بهذه، استجرّت الشباب ونقلتهم من موطئ لآخر، وأطلعتهم على السّوءة.
أطلعتهم على سلب تاريخهم واختطاف دينهم من قِبل بعض النظم التعليمية التي تعدّى دورها من المداهنة للسلاطين وزرع بذور التطرف من حيث درت أو لم تدر، إلى تضييق المعيشة بتكثير المحرمات على الأمة.
هذه الثورات التي لم تنته بعد، كانت المطرقة التي كسرت قفل العبودية الفكرية بالمقدمة قبل السياسية، وأيقظت عقول أبنائها ودفّقت في أوردتهم وعروقهم الدماء الجديدة الناضجة التي لن تتوقف حتى تقضي ضحية التزامها بالمبدأ الحقيقي الإسلامي الإنساني، أو بزوال تلك المؤسسات الطاغوتية والكهنوتية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :