بيلسان عمر
كم وجبة سنأكل اليوم؟ وما نوع هذه الوجبات؟ كم صنفًا سنقدم؟ وكم سعرة حرارية يحوي كل منها؟ وكم من الوقت والجهد سيستهلك إعدادها؟ كم تكلفتها؟ وكيف سنتباهى بموائدنا؟ ثم كيف سننقص من أوزاننا؟ وما هو النظام الغذائي الفعال الذي سنتبعه؟ وكم من صور نشرناها لتلك الموائد أمام شاشات الجائعين أو حتى اللاهثين وراء لقمة عيشهم؟
الكثير من الأسئلة التي نطرحها كل يوم على ذواتنا وعلى الآخرين، وقد نستعين بخبرات خارجية للإجابة عنها.
وضمن هذا السياق نبعد أنفسنا -ولو جزئيًا- عن ثقافة ”نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع” وعن نصيحة النبي محمد ”ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلًا، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفَسه”، غير آبهين بما تقدمه لنا من فوائد لصحتنا، وعافية في أجسامنا، بل وحتى عن المثل ”زاد واحد يكفي اثنين”، فبدل أن نتشاطر اللقمة مع الآخرين، يتكالب البعض لينتزع لقمة أحدهم من فمه.
وضمن نفس السياق أيضًا نغفل عن أن الجوع لا يقتصر على صوت معدات خاوية. فها هو جوع الفكر إلى إعمال العقول، وجوع القلوب إلى الحنان والمودة والعاطفة، وجوع المغترب إلى وطنه، والمشرد إلى بيت يؤويه، والمعتقل إلى مفتاح يفك قيوده، والمحاصر إلى طريق آمن يخرجه من حصاره، والمريض إلى دواء يعينه على الشفاء، والمتأزم إلى طرق تحلّ عسير أزمته؛ كذلك هناك جوع القاتل لمزيد من لحوم المجني عليهم.
الجوع يلازمنا في كل لحظاتنا، وحالاتنا النفسية المختلفة، ويطالنا بأسماء مختلفة. قد ننسى، أو نتناسى، أحيانًا جوعنا المعنوي أمام ما نحشو به أدمغتنا من أفكار وصور وخيالات؛ ولكن كيف للمحاصرين والفقراء والمعتقلين بمختلف أماكنهم أن يتناسوا جوعهم المادي؟ وكيف لهم أن يصمّوا آذانهم عن أصوات حتى معدات من يجلس جانبهم؟ بل عليهم أن يغلقوا أعينهم أمام ما ننشره أمامهم من صور أطعمة تحرك ما بقي من لعاب في أفواههم المتصحرة.
وقد يصل الحد بالجوع أن يفتك بالإنسان وقد يدفع بالإنسان ليفتك بأخيه الإنسان؛ فكم سمعنا عن المجاعات وآثارها، وكم من شهيد سقط في سوريا مؤخرًا إثر الجوع، وكم من عبارات كتبت على الجدران من قبيل ”إما أن تركعوا للأسد، أو تموتوا جوعًا”؛ وكيف يدفع الجوع أحدهم لسرقة لقيمات يقيم بهن أصلاب أولاده ”فالجوع كافر، لا دين له” –كما يقولون-، وكيف كان الجوع خطوة أولى أمام احتراف أحدنا السرقة والمتاجرة بلقمة عيش الآخرين، من ادخار للمواد وإخراجها في وقت حاجتهم بأسعار خيالية، ناسين أن الذين كانوا قبلهم جمعوا كثيرًا، وبنوا مشيّدًا، فأصبح جمعهم بورًا، وباتت مساكنهم خاوية على عروشها، كأنها لم تسكن من قبل، وتغير بهم الحال من مائدة عامرة بكل الأصناف يركن عليها طبق الشوربة جانبًا كنوع من المقبّلات، إلى أخرى يشكل عليها هذا الطبق الوجبة الرئيسية والوحيدة -هذا بأحسن حالاتها-، إن لم يتحول إلى مجرد حساء لا لون له ولا طعم ولا رائحة، ”فالبطون الجائعة ليس لها آأذان”.
ووسط الجوع الملم بنا من كل صوب، يغيب عن أذهاننا مفهوم الصيام وما يحمل في طياته من الشعور بالفقير والمعدم وحتى الجائع. ويغيب عن أذهاننا أوجه الجوع الأخرى، فإذ تطالعنا وسائل الإعلام كل يوم بمشاهد الجياع علّها تحرك مشاعرنا على أقل تقدير وتروّج لحملات إطعام صائم وفقير وإيصال سلة غذائية لأحدهم موظفة آيات وأحاديث وآراء متفرقة عن الإيثار لاستجرار تفاعلنا، نغفل عن دورها في إطعام الجياع معنويًا بأطعمة غير مستساغة، وما أنزل الله بها من سلطان، غير آبهة بما تدسه من سم قاتل في طعامها هذا، ”وحلال ع الشاطر منهم”.
فالجوع قد لا يترك لنا صحبًا نناجيهم، سوى أشباح موتانا، فكلنا جياع للذي سيطعمنا من جوع، ويؤنس وحشتنا بعد خوفنا وقلة الأمن في بلادنا.