إبراهيم العلوش
لماذا تراجعت الروح الجماعية المطالبة بالمعتقلين، وبالمخطوفين، رغم تزايد أعدادهم كل يوم؟
لقد تحولت قضية المعتقلين والمخطوفين السوريين، إلى قضية جانبية يتاجر بها النظام، والروس، ويضعون الشروط التعجيزية للإفراج عنهم، وصارت التجمعات المطالبة بالإفراج عن المعتقلين لا تستقطب الكثير من الحضور.
ولعل تجاهل قضية المعتقلين والمخطوفين عند داعش من أسطع براهين الاستخفاف بالبشر، والتمييز بينهم، فالمحتلون الجدد يطالبون في الرقة بالإفراج عن عبد الله أوجلان في تركيا، ويتجاهلون مصير مئات المخطوفين والمعتقلين لدى داعش من أهالي الرقة ومن السوريين.
منذ الثمانينيات احتلت قضية الاعتقال مساحة واسعة في وجدان السوريين، وأدت قصص الاختفاء والخطف والتكتم على مصير المعتقلين إلى تراكم النقمة على النظام الذي رفض رئيسه أن يعتذر لذوي المختفين والمعتقلين، ورفض أن يعوض المعتقلين الناجين من الموت، بما يعيد تأهيلهم في المجتمع، واعتبر مجرد تركهم وعدم قتلهم تحت التعذيب مكرمة من مكرماته الشخصية، وإنجازًا من إنجازات الحركة التصحيحية، وردُّ حافظ الأسد على البوطي كان حاسمًا ومانعًا لأي مطالبة بالإعلان عن مصير المعتقلين والمختفين، ناهيك عن العفو عنهم، فالعفو ليس من قيم حافظ الأسد، ولا من شيمه الحقودة التي لم توفر حتى رفيق دربه وابن بلده صلاح جديد.
الأدب السوري يعج بالقصص المروعة عن الاعتقال، وطرق التعذيب التي كانت تجري في فروع الأمن والمخابرات بمختلف أشكالها وألوانها، ولعل مذكرات المعتقلين التي انتشرت بعد عام 1995 كانت محرضًا على كشف حقيقة النظام وأفاعيله، التي كانت تجري في الأقبية أيام حافظ الأسد، وهي تجري اليوم علنًا، وتدمر سوريا جهارًا نهارًا، وتدعو المحتلين الروس والإيرانيين للتمتع بقتل شعبها ليل نهار.
ومن أشهر الروايات عن الاعتقال وأجوائه تتصدر رواية مصطفى خليفة (القوقعة) قائمة الكتب الأكثر قراءة، والأكثر شهرة وصار كاتبها من الشخصيات الشهيرة جدًا في عالم الكتابة.
ولكن كل هذا الزخم من التعاطف ومن المذكرات ومن أعداد المعتقلين السابقين، لم يولد منظمات إنسانية تهتم بالمعتقلين وتطالب بحقوقهم، وبحقوق أهاليهم وأطفالهم الذين روّعوا، ولم تجعل من قضية الاعتقال، والخطف محرمًا من محرمات الحياة السورية. وظلت التقارير الدولية عن حقوق الإنسان أهم من أي تقرير سوري عن أوضاع المعتقلين والمخطوفين، ولعل تقارير منظمة العفو الدولية ماتزال الأهم في بيان مدى فظاعة النظام، ومدى تقصير السوريين في رصد أوضاع المعتقلين والمخطوفين.
في بدايات الثورة السورية، انتظمت تجمعات للمطالبة بالتعويض للمعتقلين السابقين، وبالاعتذار عن تعذيبهم من قبل النظام وأجهزة مخابراته، ولكن هذه التجمعات سرعان ما تلاشت ولم تنبت لتولد منظمات مدنية حقوقية تحمي كرامة المعتقل، وتمنع تعذيبه الجسدي والنفسي، كائنًا ما كان رأي المعتقل، أو طائفته، أو توجهه السياسي. لقد ظل السياسيون السوريون، في الغالب، يتفاعلون مع المعتقل بناء على توجهاته وعلى رأيه، أكثر من تفاعلهم مع قضيته الإنسانية، كبشر تمنع الأنظمة والقوانين تعذيبه وتغييبه.
المعتقلون القدامى في أحاديثهم المستفيضة عن المعتقلات ورحلتهم الجهنمية فيها، كانوا يتغنون بميثاق حقوق الإنسان، وبمنظمة العفو الدولية، وغيرها من المنظمات الإنسانية العالمية، التي تتابع المعتقل كبشر، قبل أن يكون حزبيًا أو طائفيًا، فقضية الاعتقال والتعاطف ضدها عالميًا، وحقوقيًا، هي قضية جسد ووجود بشري، لا يستحق التعذيب وهدر الكرامة، قبل أن يكون هذا المعتقل بعثيًا سوريًا، أو بعثيًا عراقيًا، أو شيوعيًا، أو من جماعة الإخوان المسلمين، أو ناصريًا أو غيره من التصنيفات.
ولكن الأحاديث الشائعة بين المعتقلين المفرج عنهم منذ التسعينيات، كانت تركز على التعذيب والمعاناة التي تعرض لها المعتقل نفسه، ومن ثم على المعتقلين الذين يحملون نفس أفكاره، أو ينتمون إلى نفس الحزب، وكثيرًا ما كان بعض المعتقلين يشيرون باستخفاف إلى المعتقلين من الانتماءات الأخرى، فكثير من معتقلي الإخوان ينظرون إلى المعتقل الشيوعي ككافر، وعميل للنظام، وما اعتقاله إلا تستر وتقية من النظام لمحاربة الإسلام، وحتى التعذيب والتوقيف الذي وصل إلى عشرات السنين لبعض الشيوعيين، ما هو بزعمهم، إلا مسرحية، لتغطية الحرب على الإسلام، والكثير من أتباع الحركة ومعتقليها يعتبرون أن فجر الدعوة قيد البلوغ، وسيحصد كل الظلم بين عشية وضحاها، وقد تورط الكثير منهم بمناصرة داعش تحقيقًا لهذه النبوءة المزيفة، أو انتقامًا لتعذيبهم.
والمعتقلون الشيوعيون أيضًا ينظرون إلى معتقلي الإخوان، كمهووسين بالتاريخ وأصحاب أوهام دينية، ولا يعون المادية الديالكتيكية التي تحرك العالم، وستجعل من البروليتاريا رسل السلام والمحبة والرخاء، رغم أن الاتحاد السوفياتي كان يحصد شعوبًا، ودولًا، ويرحلها إلى سيبيريا، ويساند حافظ الأسد الذي يقوم باعتقالهم بإشراف من قياداته البروليتارية، والأممية، وها هي روسيا خليفة الاتحاد السوفياتي، قد برعت في استثمار إرث النظام السوفياتي الاستبدادي، ونجحت اليوم بتدمير سوريا، وحولت كل مدينة فيها إلى غروزني جديدة.
وكذلك معتقلو بعث العراق الذين كانوا يحلمون بانتصار صدام حسين، وهزيمة حافظ الأسد، وأنهم سيقومون معه بتطهير المجتمع السوري من الخونة وأعوان المجوس، ومن الشيوعيين، ومن الإخوان، وقد التحق الكثير من أتباعهم السابقين بداعش ذات المنبت العراقي والعقلية الصدّامية.
المعتقلون القدامى، وأهاليهم، الذين ذاقوا الأمرين إبان اعتقال ذويهم، لم ينجحوا في تكوين تجمعات حقوقية تؤازر ذوي المعتقلين والمخطوفين الجدد، بل إن التجاهل والانغماس بذكر المعاناة الشخصية والعائلية، كانت هي الملاذ للهروب من الواجبات التي تتطلبها حالة الاعتقال منهم، ومن كل الشعب السوري، وهي تشكيل منظمات وتجمعات حقوقية وإنسانية، تعنى بمصير المعتقلين والمخطوفين من قبل كل الأطراف، ومهما كان رأيهم أو دينهم أو طائفتهم.
بالإضافة إلى الزلزال الكبير الذي فجره “قيصر”، في تسريب صور التعذيب حتى الموت ونقل أرشيف الموت المخابراتي، توجد جهود سورية محدودة رغم إخلاصها الكبير، فصفحة الفنانة يارا صبري ماتزال صامدة في متابعة أخبار المعتقلين والمخطوفين، وأحوال ذويهم الذين يتسقطون أخبار مخطوفيهم ومعتقليهم، وتوجد عدة صفحات أخرى يستحق أصحابها التحية والاحترام، وتوجد مجموعات متفرقة تلاحق المنظمات الدولية لبيان وضع المعتقلين السوريين مثل مجموعة شيار خليل ونشاطها في البرلمان الأوروبي، ومثلها توجد مبادرات فردية متناثرة، ولكن الأعداد الهائلة من السوريين، ومن المعتقلين السابقين لا يكترثون كثيرًا للمعتقلين الجدد، ولا لذويهم، ويعتبرون أن هذا من مهمة المنظمات الدولية.
ورغم هيمنة النظام، واختراق عملائه للتنظيمات المدنية والحقوقية وتخريبها، فإن السوريين جميعًا يتحملون ذنب التقصير في مساندة المعتقلين والمخطوفين وذويهم، وخاصة المعتقلين السابقين الذين ذاقوا مرارات التعذيب والتغييب، ولكنهم تجاهلوا مصير من احتل السجون والمعتقلات بعدهم، فالكثير من المعتقلين السابقين تشتتوا بين اجترار ذكريات الاعتقال المرّة، وبين العودة إلى أحزابهم التي ماتزال متخشبة، ولا تعنى إلا باستمرار وجودها، ولو كانت جثثًا سياسية تطفو على بحر الدماء السوري.