فريق التحقيقات في عنب بلدي
على بعد أكثر من 250 كيلومترًا عن منزلها، كانت كاترين مزهر ترتدي فستانها الأبيض في إحدى ليالي الخريف الماضي. بمساعدة نساء غريبات، استعدت الشابة لحضور زفافها بمفردها، دون أن تشاركها الفرحة أم أو أخت أو صديقة، ودون أن يمسك والدها بيدها إلى منزل الزوج.
عائلة كاترين في السويداء كانت تعيش لحظات عصيبة، بعد أن تورّطت بقتل ثلاثة شبان يتبعون لفرع أمني في المدينة، قالت العائلة إنهم شاركوا بـ “خطف وقتل” كاترين و”المتاجرة بأعضائها”.
بدأت قصة كاترين (17 عامًا) عندما خرجت من منزل ذويها في مدينة السويداء، نهاية أيلول 2017، بمساعدة أفراد من الأمن العسكري متوجهةً إلى دمشق، ثم إلى ريف حمص، حيث يقطن الشاب الذي أحبته دون أن تنظر إلى اختلاف طائفتيهما، لكن القضية سرعان ما اشتعلت مع تحويلها إلى جريمة اختطاف وقتل، ثم قضية أمنية، ثم سياسية.
وفي حين تداولت وسائل الإعلام روايات مختلفة للحدث، إلا أن السيناريو الأكثر وضوحًا، والذي أكدته كاترين في تسجيلات مصورة تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي، كان أساسه اعتراض عائلتها الدرزية على زواجها من شاب علويّ، ما دفعها إلى الهرب، ككثيرات غيرها من بنات الطائفة، تزوجن “خطيفة”، فثار الدم.
وتعتبر الطائفة الدرزية من أكثر المكونات السورية تحفظًا على تماسكها الداخلي، ما يجعل زواج أبنائها من طوائف أخرى أمرًا مرفوضًا بشدة، لكن الأمر ليس سهلًا للغاية بالنسبة لبقية المكونات الدينية، ويواجَه بقيود ورفض كبير.
السيدة سهى.ع، خمسينية تقطن مدينة حلب، لديها وجهة نظر إيجابية تجاه زواج الأديان، فهي مسلمة سنية وكانت قد تزوجت رجلًا مسيحيًا قبل نحو ثلاثين عامًا، وأنجبت منه ولدين، ورغم أن زوجها اضطر لإعلان إسلامه دون الالتزام به بغرض تثبيت الزواج قانونيًا، إلا أنهما تمكنا من التغلب على رفض الأهل الذي تحول إلى “قبول على مضض”، ثم ارتياح، ثم تقبل تام في نهاية المطاف.
وترى سهى أن ثمانينيات القرن الماضي كانت “فترة ذهبية” فيما يخص “الزواج المختلط”، نظرًا إلى “التحرر والانفتاح” اللذين وسما المجتمع السوري خلال تلك الفترة، مؤكدة أن الاتجاه إلى الالتزام الديني في فترات لاحقة قلل من إمكانية حدوث ذلك على نطاق واسع، ومن ذلك المنطلق فإن الزواج بين أبناء الطوائف والأديان المختلفة هو ظاهرة منتشرة في سوريا، تطفو إلى العلن في حال توفرت البيئة الاجتماعية المساعدة، ودون ذلك تصبح سرية وغير معلنة.
ولعل أبرز دليل على ذلك هو ما تلا فترة الثورة السورية من نزعة إلى حرية الاختيار بين بعض الشباب والشابات، عززتها موجات الهجرة الضخمة إلى أوروبا، حيث لا عائلة تقيد حرية الزواج ولا دم يستباح.
الشابة الدرزية ليلى. ف (26 عامًا)، التي تقطن في مدينة دمشق، تؤكد أن نسبة كبيرة من شباب وشابات طائفتها الذين غادروا سوريا أصبحوا أكثر انفتاحًا وحرية فيما يخص قرارات الزواج من طوائف أخرى، تلك الحرية التي لا يمكن أن تنالها هي في دمشق.
وتشير ليلى، في حديث إلى عنب بلدي، إلى أن خوفها على عائلتها من رد فعل المجتمع يعني حصر اختياراتها حول الزواج بأبناء طائفتها، مؤكدة أن أولادها لن يكونوا في ذات الموقف مستقبلًا، وأنها ستسعى لمنحهم حرية الاختيار الكاملة.
لكن الحرب التي لم تغيّر الكثير فيما يخص محافظة السويداء، سواءً على المستوى الأمني أو الاجتماعي، بدلت ملامح مناطق أخرى وجعلت المتاح في حمص ممنوعًا في إدلب، والمرحب به في الحسكة مستهجنًا في ريف دمشق، وتشمل تلك الملامح الديموغرافيا والعادات الاجتماعية ودرجة النزوع إلى العقيدة.
فمدينة إدلب التي كانت تحتضن ثلاثة آلاف مسيحي، وفق تقرير صادر عن تقرير مركز “تطوير المجتمع والبيئة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” عام 2010، لم تعد تحوي اليوم غير المسلمين السنة، ما أنهى إمكانية وجود حالات زواج بين أبناء الديانتين، حتى وإن أتاحت الحدود الشرعية ذلك.
أما مدينة حمص، التي تحوي خليطًا طائفيًا من السنة والشيعة والعلويين والمسيحيين، فزادت فيها حالات الزواج بين أبناء هذه الطوائف مؤخرًا، مع ارتفاع عدد النازحين إليها، وبالتالي تراجع القيود الاجتماعية المرتبطة بالعائلة والحي والمعارف.
ليس غريبًا أن يتأثر زواج الأديان والطوائف بعدما دخلت الحرب جميع تفاصيل الحياة في سوريا، كما أن أعوام التخبط التي تمر بها البلاد، قد تحمل معها تغييرًا كبيرًا حتى على مستوى القوانين الناظمة للزواج، لكن بالمقابل، يبدو أن المجتمع سيستمر في إبداء المقاومة تجاه مزيد من التغيرات، خاصة مع تضخم الفروق الاجتماعية بين السوريين.
بين مناطق النظام والمعارضة وبلدان اللجوء
ماذا حل بزواج الأديان؟
لم يكن الزواج بين الأديان والطوائف المختلفة في سوريا أحد مخرجات السنوات السبع الماضية، التي شهدت تحولات جذرية مست صلب المجتمع السوري، بما فيها عادات وظروف الزواج، التي استجابت بمرونة لمتغيرات الحرب.
وواجه المجتمع السوري “المتحفظ”، عبر عقود من الزمن، حالات عدة جمعت بين زوجين من طائفتين مختلفتين، برفض لم يحكمه الدين، بل حكمته عادات وتقاليد وأعراف سائدة بين العائلات السورية تحت عبارة “يلي ما بياخد من ملته بيموت بعلته”.
ولكن أين أصبح الزواج “المختلط” بين الطوائف في سوريا، بعد العام 2011؟ وما المتغيرات التي طرأت عليه مع بروز الانتماء الديني والطائفي في جوانب مختلفة من حياة السوريين؟
النزوح يكسر عادات المجتمع “المحافظ“
السيطرة العسكرية والنزاعات السياسية لم تكن موضع الخلاف والاختلاف الوحيد بين النظام السوري وقوى المعارضة السورية خلال السنوات الماضية، بل انعكست تلك الخلافات على حياة المدنيين اليومية وعاداتهم وتقاليدهم، وولدت اختلافات تطبعت معها الحياة الاجتماعية بأنماط خاضعة لمواقف سلطة الأمر الواقع الحاكمة.
ومن هنا، كان لحركة النزوح التي شهدتها مناطق النظام دور في تعزيز الزواج بين الأديان والطوائف، بحكم الاختلاط الذي فرض نفسه على تلك المناطق، بنزوح ما يزيد عن خمسة ملايين سوري من مختلف الطوائف والمذاهب الدينية.
وبغياب الإحصائيات الرسمية حول معدلات الزواج “المختلط” الذي شهدته السنوات الأخيرة في سوريا، كان لشهادات الناس الذين عايشوا حالات كهذه الدور الأبرز في إثبات وجودها، ولكن تبقى “غير معلنة” وقد لا تكون خارجة عن حدود المألوف.
اختلاط الثقافات بين النازحين السوريين والمجتمعات المستضيفة كان له دور في تبدد عقلية التمسك بالعادات والتقاليد، فيما يخص الزواج تحديدًا، وأصبح معها من الممكن تقبّل المجتمع للزواج من مناطق ودول مختلفة، وحتى من أديان وطوائف أخرى.
القاضي إبراهيم حسين، عضو المجلس القضائي السوري المستقل، قال إنه لا علاقة للقانون في تعزيز ظاهرة الزواج بين الأديان، كونه لم يَصدر أي تعديل تشريعي على قانون الأحوال الشخصية السوري، لا في مناطق النظام ولا في مناطق المعارضة.
إلا أن الاختلاط بين السوريين على مختلف طوائفهم، في مناطق خاضعة لسيطرة النظام، ساعد على تعزيز الزواج فيما بينهم، حسبما رأى القاضي.
وأضاف في حديثه إلى عنب بلدي أن “هناك الكثير من أبناء الطائفة السنية نزحوا إلى اللاذقية وطرطوس ذات الغالبية العلوية، كما أن عددًا من أهالي درعا السنة نزحوا إلى السويداء، الحاضنة الأكبر لأبناء الطائفة الدرزية”.
ويقدر عدد النازحين إلى اللاذقية وطرطوس بـ 1.5 مليون سوري، معظمهم قدموا من محافظتي حلب وإدلب، كما استقبلت السويداء ما يزيد عن 300 ألف نازح، أغلبهم من محافظة درعا وريف دمشق.
لا طوائف في مناطق المعارضة.. ولا زواج “مختلط“
في مناطق سيطرة المعارضة، يبدو مشهد الزواج المختلط شبه غائب، وذلك لغياب التنوع الطائفي عن تلك المناطق، نتيجة لتغيرات ديموغرافية طرأت على تركيبتها.
وبالحديث عن إدلب تحديدًا، الحاضنة الأكبر للمعارضة السورية، والتي كانت تضم مواطنين من الطوائف السنية والعلوية والدرزية وآخرين مسيحيين، شهدت غيابًا شبه تام لظاهرة الزواج المختلط، وذلك لرحيل أبناء تلك الطوائف عن المنطقة، باستثناء السنية.
ولا يخفى التوجه الديني للفصائل الحاكمة في مناطق المعارضة، والتي فرضت على المواطنين الخاضعين لسيطرتها نمطًا سادت معه نظرة “غير معلنة”، معادية للطوائف الأخرى، بحكم المواقف السياسية.
من وجهة نظر القاضي إبراهيم حسين فإن مناطق المعارضة طغى عليها طابع موحد، “نتيجة الحرب التي عززت النظرة السيئة بين الطوائف، والتي شملت المكون بأكمله وفقًا للموقف السياسي”.
وقال “أصبح هناك شرخ بين المسلم وغير المسلم، أصبح المعارضون ينظرون للمسيحيين والعلويين والشيعة على أنهم جميعهم مؤيدون لنظام الأسد، وأصبح أبناء تلك الطوائف ينظرون للسنة على أنهم معارضون له”.
من جانبه، أكد الشيخ عمر عبد الرحمن، من ريف إدلب، اختفاء ظاهرة زواج الأديان والطوائف في مناطق المعارضة، مرجعًا الأمر إلى أسباب لم تختلف كثيرًا عن تلك التي ذكرها القاضي حسين.
وقال الشيخ، في حديث إلى عنب بلدي، “بدأت كل طائفة بالانطواء حول نفسها، بشكل غير مباشر، ونأت بنفسها عن الطوائف الأخرى بحكم التناحر الذي ولدته الحرب في سوريا، والذي أدى إلى قطع كافة العلاقات الاجتماعية بين المذاهب“.
اللاجئون السوريون.. نحو الزواج المدني
في زخم الفرص التي وجدها اللاجئون السوريون في بلدان اللجوء، وخاصة الأوروبية منها، للتخلص من عادات وقوانين اعتبروا أنها “لم تكن منصفة” لهم في بلدهم الأم، حاول بعضهم استغلال قوانين المجتمع “المتحرر”، الذي يضع ضمن أولوياته “احترام” الحرية الشخصية للأفراد فوق أي اعتبار آخر.
ومع تجاوز عدد اللاجئين السوريين خمسة ملايين سوري، ما يزيد عن 500 ألف منهم استقروا على أراضي الاتحاد الأوروبي، زادت محاولات الاندماج في تلك المجتمعات التي تحرر الزواج من أي ضغوط، وتدرجه تحت مسمى “الزواج المدني” لا الديني.
الناشط الحقوقي في مجال اللاجئين السوريين، محمود الشامي، قال إن زواج الأديان والطوائف بين اللاجئين السوريين أمر سهل جدًا ومتاح في أوروبا، التي لم يعد يرجع فيها بعض السوريين إلى عادات مجتمعهم القديم، ولا إلى دينهم.
إلا أنه أشار لعنب بلدي إلى أن الزواج الديني هو الطاغي على حياة اللاجئين السوريين، الذين غالبًا ما يلجؤون إلى عقد القران في أحد الجوامع بأوروبا وفقًا لتعاليم الدين الإسلامي، ومع ذلك لا يخفى توجه بعض اللاجئين نحو الزواج المدني، الذي يسمح بزواج الشاب والفتاة بغض النظر عن ديانتهما.
إلا أن محمود الشامي، الناشط في ألمانيا، لفت إلى أن بعض اللاجئين يضعون غياب الزواج المدني في سوريا “حجة” للحصول على اللجوء الإنساني، إذ يلجأ بعضهم إلى منظمات حقوقية ويشتكون صعوبة الاعتراف بزواجهم في بلدهم بسبب اختلاف الدين والطائفة.
وأضاف أن السلطات غالبًا ما تتعاطف مع حالات كهذه، لعلمها بحساسية الموضوع، بالإضافة إلى غياب دور الأهل في أوروبا، خاصة مع لجوء شباب وفتيات إليها دون ذويهم، ودون رقابة المجتمع وقيوده.
القاضي إبراهيم حسين قال إن زواج اللاجئين المدني لم يعترف به القانون السوري، ويعتبره زواجًا “باطلًا”، خاصة في حال تزوجت مسلمة بغير المسلم، مشيرًا إلى أن الأطفال الناجمين عن زواج كهذا غالبًا ما يسجلون في خانات خاصة تتبع لنسب الأم، في حال عودتهم إلى سوريا.
ولفت القاضي حسين إلى أن الزواج المدني بين السوريين كان موجودًا قبل عام 2011، إذ غالبًا ما كان الزوجان يلجآن في هذه الحالة إلى تثبيت زواجهما في لبنان أو قبرص، ثم يعودان إلى سوريا دون تثبيته في المحاكم.
كيف تنظر الأديان للزواج المختلط؟
وضعت الأديان على اختلافها ضوابط شرعية تحكم مسألة الزواج، وخصتها بأحكام وقواعد، نفذت إلى قوانين الدولة التي استمدت تشريعاتها من الديانات السماوية.
واتفقت المراجع الإسلامية الدينية والفقهية على تحريم زواج المسلمة بغير المسلم، عملًا بالآية “ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم”. وجاء في بيان لـ “مجمع الفقه الإسلامي الدولي” أن “ادعاء الزوجة أن مثل هذا الزواج قد يكون وسيلة لإقناع الزوج بالإسلام ليست مبررة له، بل لا بد أن يكون إسلامه قبل عقد الزواج، وبدون ذلك يعد سفاحًا ليس له شيء من أحكام النكاح الشرعي”.
أما الزواج بين الطوائف في الإسلام فهو ليس محرمًا، ولم تصدر أي أحكام تمنع الزواج بين السنة والشيعة والعلوية والدروز، باستثناء بعض أقوال الفقهاء الذين اشترطوا في هذا الزواج ضرورة التوحيد وعدم التطاول على المعتقدات الإسلامية لدى أحد الزوجين من طائفتين مختلفتين.
أما بالنسبة للرجل المسلم فينقسم الأمر إلى شقين، الأول زواجه من “غير الكتابيات” والذي يحرمه الإسلام، مجسدًا بالآية “ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم”.
في حين لم يحرم الإسلام زواج المسلم من المسيحيات واليهوديات، عملًا بالآية “اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم”.
أما الدين المسيحي فيجيز الزواج بين طرفين مسيحيين ينتميان إلى مذاهب مسيحية مختلفة، في حين لا تحبذ الكنيسة زواج أبنائها من غير دين، وذلك استنادًا لما جاء في رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 6: 14، “لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة“.
ومع ذلك فإن المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي انعقد في ستينييات القرن الماضي، أحدث تغييرات جذرية في القانون الكنسي، وذلك بإصداره قانونًا يسمح بالزواج المختلط، ولكن بإذن الكنيسة، واعتبر أن من يقدم على زواج مختلط بدون إذن السلطة الكنسية “يعقد زواجًا صحيحًا، ولكنه غير جائز“.
زواج الأديان في القانون السوري
أحكام مستمدة من حرية المعتقدات
في مضمونه، يحترم القانون السوري حرية الاعتقاد لدى المواطنين على الأراضي السورية، وتنص المادة الثالثة من الدستور السوري على أن “الدولة تحترم جميع الأديان (الإسلام – المسيحية – اليهودية) والطوائف التابعة لها، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها، على ألا يخل ذلك بالنظام العام”.
ولذلك تعددت محاكم الزواج تبعًا للأديان والطوائف السائدة في سوريا وهي، المحاكم الشرعية، المحكمة المذهبية الدرزية، المحكمة الروحية للروم الأرثوذكس، محكمة للكاثوليك، محكمة للسريان، محكمة للإنجيليين ومحكمة للطائفة الموسوية، والتي تختلف أحكامها وقوانينها باختلاف المذهب الديني.
انطلاقًا من تنوع الأديان وغياب الزواج المدني في سوريا، سن قانون الأحوال الشخصية السوري تشريعات ضبطت الزواج بين أبناء المذاهب المختلفة، لكن بما يتوافق مع الدين الإسلامي، الذي يعتنقه غالبية السوريين، كون أحكام الزواج والطلاق والميراث وكل ما يتعلق بالأحوال الشخصية مستمدًا من أحكام الشريعة الإسلامية، وخاصة القرآن والسنة النبوية.
من هنا، أجاز قانون الأحوال الشخصية في سوريا زواج الرجل المسلم بامرأة مسيحية، إلا أنه لم يجز للمرأة المسلمة الزواج من رجل مسيحي، حتى يشهر إسلامه في المحكمة الشرعية، وذلك وفقًا للمادة رقم “48” من قانون الأحوال الشخصية، والتي تنص على أن “زواج المسلمة بغير المسلم باطل، والأطفال المولودون من علاقة مماثلة يعتبرون غير شرعيين”.
وبنفس السياق، منع القانون السوري على المسيحية المتزوجة من مسلم أن تنسب أطفالها لديانتها، كما منع عليها أن ترث زوجها المسلم، وذلك استنادًا للمادة رقم “264” من قانون الأحوال الشخصية، والتي تنص على أن “المسيحي لا يرث مسلمًا، والمسلم لا يرث مسيحيًا”.
أما بالنسبة للزواج بين الطوائف الإسلامية (السنية- الشيعية- الدرزية- العلوية- الإسماعيلية) فيسمح به القانون السوري، دون أن يضطر أحد الزوجين إلى تغيير طائفته، باستثناء أبناء الطائفة الدرزية، إذ إن المحكمة المذهبية الدرزية تفرض على الزوجين أن يكونا درزيي الأصل، كون الطائفة الدرزية “لا تُعتنق”، ما يضطر الزوجين في هذه الحالة إلى تثبيت زواجهما بالمحكمة الشرعية.
كما أن المادة “307” من قانون الأحوال الشخصية استثنت تطبيق بعض أحكام الشريعة الإسلامية على أبناء الطائفة الدرزية، ومن بينها تعدد الزوجات، والسماح بالزواج من طائفة مختلفة.
القانون يبيح والمجتمع يرفض..
الزواج المدني “فرض” في مناطق الإدارة الذاتية
فيما لا يزال المجتمع السوري متخبطًا بشأن قبول الزواج المختلط بين الأديان والطوائف، ومع ازدياد وضوح النعرات الطائفية خلال الأعوام الستة الماضية، قررت الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا أن تحسم الجدل بالقانون ودون تمهيد مجتمعي لصالح الزواج المدني.
تقضي المادة 12 من قانون “المرأة”، الذي أصدرته الإدارة الذاتية، بتنظيم صكوك الزواج مدنيًا، بهدف الوصول إلى “عقد زواج بين شريكين موثق العهد بشاهدين في مقر رسمي، ويتم هذا العقد على الحب المتبادل والرغبة في تكوين أسرة”، وفق نص القانون الذي حصلت عنب بلدي على نسخة منه.
ورغم أن المادة تنص على ضرورة الزواج المدني لـ “تقليل النعرات الطائفية وتعزيز العيش المشترك”، لكن منذ تعميمها صيف العام الجاري لم يتم تسجيل أي حالات زواج بين رجل وامرأة من دينين وطائفتين مختلفتين.
ويشير شفان جولي، مسؤول مكتب الإعلام في “بلدية قامشلو” التابعة للإدارة الذاتية في مدينة القامشلي، إلى أن “العقد يشمل جميع الناس داخل الإدارة الذاتية الديمقراطية”، لافتًا إلى أن البعض يسعون إلى تزويج بناتهن ممن لم يبلغن 18 عامًا، إلا أن ذلك يتم وفقد عقد شرعي ولا يتم تثبيته في سجلات الإدارة الذاتية.
وتنص المادة على أن يكون طرفا العقد قد أتما الثامنة عشرة من العمر، فيما تمنع الطلاق أو التفريق دون “سبب توافق عليه المحكمة”، أو من طرف واحد، أو قبل مرور ثلاثة أعوام على الزواج، فضلًا عن أنها تحظر تعدد الزوجات.
وخلقت التفاصيل حالة من الرفض في محافظة الحسكة، حيث تقطن غالبية من المسلمين السنة العرب والكرد، إضافة إلى قسم من المسيحيين الآشوريين، إذ مايزال أغلب السكان ملتزمين بالطقوس الدينية المرتبطة بالزواج، سواءً كانت عقد قران شرعي بوجود شيخ، أو إتمام مراسم الزواج في الكنيسة، إلى جانب العقد المدني الذي يتم توقيعه في البلدية.
ويرى شفان جولي أن التقبل “كبير وملحوظ” فيما يخص موضوع الزواج المدني، “أما فيما يخص زواج الأديان فلم يحدث ذلك بعد، بالنظر إلى حساسية الموضوع وارتباطه بالوقت”.
حواجز الزواج ترسم حدود الخريطة الطائفية في سوريا
في العرف الشعبي السوري ليس “العار” هو أن تتزوج الفتاة دون علم ذويها فقط، بل يمكن أن يأتي “العار” على شكل زواج من “خارج الملة”، وهو ما يتم غالبًا دون موافقة العائلة، وينتهي إلى نتيجة درامية.
وتختلف درجة الحدة في التعامل مع قضية “الزواج المختلط” تبعًا للمنطقة والظرف الاجتماعي والطائفية المعنية بالقضية، لكن مع استمرار رفضها من قبل القانون الذي يحكم الدولة، لم يحظ المجتمع السوري بأي مجالات للقبول بالأمر على نطاق واسع.
إضافة إلى التنوع الديني والعرقي، تتسع الخريطة الطائفية في سوريا لأكثر من خمس طوائف تتبع للديانة الإسلامية، واستمرت هذه الطوائف بالحفاظ على نسبها بشكل جيد خلال العقود الماضية بمساعدة آليات دفاعية كثيرة أهمها التأكيد على “صفاء النسب” بالامتناع عن مصاهرة الطوائف الأخرى.
الطائفة السنية
بحسب آخر إحصائية أصدرها مركز الإحصاء الرسمي في سوريا عام 1985 عن التوزع الديني، فإن نسبة المسلمين السنة تبلغ 76.1% من مجمل السكان، فيما يؤكد باحثون أن النسبة الحقيقية تتجاوز 80%.
يقبل أغلب السنة زواج الرجل من امرأة مسيحية، وليس العكس، بناءً على النصوص الشرعية، أما بالنسبة للطوائف فغالبًا ما يتم رفض الأمر.
لكن درجة الرفض والقبول بالنسبة للطائفة السنية تتعلق غالبًا بالظرف الاجتماعي، ففي المدن ذات الاختلاط الأقل بالطوائف يكون الأمر أصعب بالمقارنة مع مناطق أخرى ذات تشكيلة طائفية أكثر.
ففي مدينة حلب على سبيل المثال بقي زواج الغالبية السنية من باقي الطوائف أمرًا مستهجنًا، فيما يبدو الأمر أقل صعوبة في مدينة حمص لوجود نسبة من العلويين والشيعة داخلها وفي محيطها.
بالمقابل توفر حالة “الأكثرية” بالنسبة للسنة شعورًا بالأمان يقلل من “الخوف على العقيدة” في قضية زواج أحد أبناء الطائفة من طوائف أخرى.
الطائفة العلوية
تصل نسبة العلويين في سوريا إلى 10% من مجمل السكان، ويتركزون في الساحل السوري وبعض قرى حماة وحمص، كما زاد انتشارهم في محيط العاصمة دمشق نهاية القرن الماضي.
ويتساهل قسم كبير من العلويين في شؤون الزواج من طوائف أخرى نتيجة الخليط الطائفي في مدن الساحل.
وتعرضت الطائفة في الفترة بين عامي 1999 و2007 إلى حركة تشييع كبيرة، إذ وصل عدد المتشيعين في تلك الفترة إلى ما يزيد عن 12 ألفًا، وفق كتاب “البعث الشيعي” للباحث السوري عبد الرحمن الحاج.
ويعد الزواج من أكثر الوسائل التي يتم توظيفها في خدمة التشيع، وهذا ما يفسر حالات زواج كثيرة بين أبناء الطائفتين العلوية والشيعية في سوريا.
الطائفة الإسماعيلية
لا تتجاوز نسبة أتباع الطائفة الإسماعيلية 2% من سكان سوريا وفق إحصائية عام 1989، ينتشرون في أرياف الوسط والساحل السوري.
ولا يشكل زواج أبناء الطائفة من طوائف أخرى أمرًا صعبًا للغاية، وذلك متعلّق بالأنماط الاجتماعية المتقاربة في المدن والقرى التي يقطنونها، لكن الأمر تراجع عقب الثورة السورية.
مصادر عنب بلدي في مدينة مصياف بريف حماة، حيث ينتشر قسم من أتباع الطائفة الإسماعيلية، أكدت أن زواج أبناء الطائفة من طوائف أخرى تراجع للغاية خاصة بين الإسماعيليين والعلويين، كوسيلة للتعبير عن موقف سياسي من غير الممكن الإعلان عنه في منطقة محاطة بقرى موالية للنظام.
تتبع للطائفة الإسماعيلية فرقة “الآغاخانية” التي يتركز أتباعها في مدينة سلمية بريف حماة، ويعتبرون أكثر تشددًا فيما يتعلّق بالزواج من طوائف أو فرق أخرى.
الطائفة الدرزية
تُقدر نسبة أبناء الطائفة الدرزية بـ 3% من سكان سوريا، ويقطن غالبيتهم في محافظة السويداء ومحيط مدينة دمشق.
تعرف الطائفة بتماسكها الداخلي وهو ما يجعلها أكثر الطوائف تشددًا تجاه زواج أحد أبنائها من طوائف أخرى، وتبلغ صعوبة الأمر حدّ “إباحة دم” من يتزوج من خارج الطائفة.
الطائفة الشيعية
لا توجد أرقام دقيقة حول عدد الشيعة في سوريا، فوفق إحصائية 1985 الرسمية لا تتجاوز نسبة الشيعة 0.4%، لكن نهاية القرن الماضي انتشرت حركات تشيع في سوريا، ويشير كتاب “البعث الشيعي” إلى أن ما يقارب 16 ألف سوري اعتنقوا الطائفة الشيعية بين عامي 1919 و2007.
ليس محببًا لدى الشيعة أن يتزوج أبناؤهم من طوائف أخرى، لكنه أمر غير مرفوض بشكل قطعي.
ويزيد من إمكانية زواج الشيعة من طوائف أخرى انتشارهم في الأرياف السورية وتوزع قراهم بين أخرى سنية وعلوية وإسماعيلية ما يقلل إمكانية تقوقعهم وتحقيقهم الاكتفاء في مناطقهم الصغيرة.