ضرار عثمان الحسيني
تحدّث السيد معاذ الخطيب إلى كل السوريين، مفنّـدًا ومحذّرًا وناصحًا. لم يُعلن ولاءً لأحد سـوى لسوريا والبسطاء المقهورين فيها، ولم يُشهر حِرابَه ويَطعنَ منتقديه وهو المستقيل من كل الصفات السـلطوية. قال بالحرف: سوريا أغلى من النظام وأغلى من المعارضة.
لم يستجد النظام كما توهّم البعض، ولم ينجرف مع أهواء المعارضة. وللدلالة على ما جاء في كلمته، يمكن الإيجاز بالنقاط الخمس:
1- لا للتقسيم، 2- لا للارتهان للخارج، 3- إنقاذ سوريا مسألة أولوية، 4- كفى للقتل وللدمار، 5- الدعوة إلى عدالة انتقالية وحل سياسي تفاوضي في ظل تعـذّر الحسم العسكري، وأكّـد بأن الشعب ماضٍ في طريقه للنهاية في سبيل الحرية رغم الألم والمعاناة.
تحدّث الرجل بوازع إنساني وطني بامتياز، ستة ملايين طفل سوري بلا تعليم، 500 ألف ضحية سورية، فضلًا عن المعتقلين من الأطفال والنساء، ويبقى الخاسر الأكبر هم أبناء الشعب السوري.
ما المعيب فيما قاله الرجل ليقابل بوابل من السخرية والتسفيه؟ وأين الإفراط في كلامه والتفريط؟
إن كنا فعلًا غير قادرين حتّى على استيعاب ما يحدث في سوريا الآن، فهذا لا يعني خُذلان الحق وهَجْـوِ الأوطان واليأس من يقظة الناس، بل يقتضي الواجب أن نمعن النظر فيما آلَ إليه الحال ونفهمه كما فهمت بقيّـة الشعوب كارثة القتل والاقتتال.
الأوربيون دفعوا ثمن حماقة عشرة زعماء مجانين ما زاد عن 70 مليون روح أزهقت من أجل اقتسام مناطق النفوذ والنهب في العالم. وكان في أوروبا ما كان وانتهى كله عمليًا في عام 1945. وتوجهت الأقلام بعدها لتبدع في كل شيء، كما توجه المجتمع كله نحو البناء، فكان مشـروع مارشـال الذي بادر فيه المنتصرون لمد يد الإسعاف والرحمة للمنهزمين، وتلقّـن العالم الغربي درسًا عن الموت والحرب والدمار والحصار والشوفينية والعنصرية، وفهم بنهاية المطاف كيف تُبنى الحضارات وفق النظام الواقعي الجديد. الدولة الوطنية وأساسها المواطنة، متجاوزين بذلك وجهة النظر السياسية ومنطق “النصر أو الهزيمة”.
نحن اليوم نكاد نمشي على خطى أولئك الشياطين أنفسهم. نحن اليوم ضحية ثلاثة مشاريع إقليمية كما تحدّث السيد معاذ. ولا فرق بين كراهيتنا وكراهية النازية، فكلاهما يستند إلى منظومة فكرية وعقائدية مشوّهة وعنجهية خرقاء.
أليس الحق ومن خلال هذه الكوارث المحدقة أن نبادر لبلورة هوية جامعة نواتها الأرض وحدودها الوطن كما تفعل سائر الأمم؟
لطالما عُرّفت السياسة على أنّها فـن الممكن. حين لا يستطيع طرف فرض كل ما يريد، يلجأ إلى طرح مبادرات لتحقيق أعلى المكاسب وأقل التنازلات. فبينما يرى البعض في المطلب الإنساني على حساب السياسي أمرًا حميدًا ورجاءً في حقن الدماء واسـتنزاف المقـدّرات حتّى وإن جاءت الصَرخةُ في واد أو ظلّـت حبيسة الأماني، يرى آخرون فيها تفريطًا وسـذاجة في الطرح.
إليكم نماذج في الحسابات السياسية وتقـدير الشعوب:
• حينما رجحت كفة القوات الفرنسية، ونَـفَـد ما لدى الأمير عبد القادر الجزائري من إمكانيات لم يبق أمامه سوى الاستسلام حقنًا لدماء من تبقى من المجاهدين والأهالي، وتجنيبًا لهم من بطش الفرنسيين، وفي ديسمبر 1847 اقتيد الأمير عبد القادر إلى أحد السجون بفرنسا، وفي بداية الخمسينات أفرج عنه شريطة ألا يعود إلى الجزائر، فسافر إلى تركيا ومنها إلى دمشق عام 1855.
• بعد مفاوضات شاقة استمرت قرابة 30 شهرًا، وافق مانديلا على شروط خصمه وتنازل عن مطالبه بنظام موحّـد يكون الحكم فيه للأغلبية رغم كل المجازر التي حصلت بحقهم، مقابل إطلاق سـراح جميع السجناء السياسيين.
• في يناير 2005 أيام الحرب الشيشانية الثانية، أصدر أصلان مسخادوف (ثالث رئيس لجمهورية الشيشان وأحد أكبر القادة المقاتلين) أمرًا بوقف جميع العمليات العسكرية ضد الاحتلال الروسي باستثناء حالات الدفاع عن النفس، حتى نهاية فبراير، ودعا مجـددًا إلى التفاوض لإنهاء النزاع في الشيشان. وتخلّى عن مطالبه في الاستقلال وذلك مقابل “ضمانات بقاء وجود الشعب الشيشاني”.
أجد في كلام السيد معاذ لمن يعيه ويقدّره دعوة صادقة للعمل على نحوٍ جامع والانتقال بالمصلحة من الشأن الخاصّ إلى العام، وهي بلا شك قضية مُكلفة، لكنها منهج الأنبياء ودَيدَن المصلحين عبر الأزمان والأجيال، وهذا ثغرُنا، ولا نملك حتّى الآن أفضل منه.