عنب بلدي – رهام الأسعد
وجدت صفحة “الوفيات” لنفسها مكانًا في الصحف الورقية العربية والعالمية، عبر عقود من الزمن، وأصبحت نمطًا سائدًا يُدرّس في كليات الإعلام باعتباره جزءًا من مكونات الجريدة الورقية، مثلها مثل الصفحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وأكثر قراءة منها.
“من مات ولم ينعَ في صحيفة الأهرام لم يمت”، سادت هذه المقولة في مصر بعد قرن ونصف عززت خلاله صحيفة “الأهرام” المصرية ضرورة الإعلان عن الوفيات بشكل يومي، بل وعززت معه الفروقات الطبقية بين المواطنين، بعد أن أصبح النعي في الجرائد واجبًا اجتماعيًا على العائلات المرموقة والقوى السياسية والشخصيات البارزة وأقربائها.
ومع ذلك لم تتعد “صفحة الوفيات” كونها مساحة إعلانية ينظر لها كأي مساحة إعلانية تجارية أخرى في الصحيفة الورقية.
في مصر صحيفة “الأهرام”، في بريطانيا “تايمز”، في الكويت “الأنباء”، في الأردن “الرأي” وفي لبنان “النهار”.
أما في سوريا، لم تجد صفحة “الوفيات” لنفسها مكانًا في الصحف الرسمية، التي اكتفت عبر تاريخها بنشر “شكر على تعزية”، أصبح عرفًا لدى العائلات السورية الكبيرة، التي حمّلت نفسها “بروتوكول” شكر كل من قدم واجب العزاء لفقيدهم، عبر الصحف الرسمية.
في السنوات السبع الأخيرة، التي شهدت مقتل ما يزيد عن نصف مليون سوري، ولد نمط جديد من الإعلان عن الوفيات في سوريا، أخذ منحى “رقميًا” مختلفًا بشكله عن تلك الصفحات، إلا أنه بجوهره أدى نفس مهامها، ويزيد.
صفحات وفيات، ولكن هذه المرة “أونلاين”، استجابت للأمر الواقع الذي فرضته الشبكة العنكبوتية، وبالتحديد مواقع التواصل الاجتماعي، كما استجابت لمتغيرات أخرى طرأت على السوريين أنفسهم، وجعلتهم متوزعين في مشارق الأرض ومغاربها.
ورغم أنها لم تعتمد أسلوبًا موحدًا يحدد هويتها، وانتشرت في فضاء لا يحكمه قانون أو أسلوب أكاديمي، صنفت صفحات الوفيات “أونلاين” نفسها بنفسها، تبعًا للمناطق السورية والقوى المسيطرة فيها، وتبعًا لمواقف السوريين السياسية.
بعضها اختص بنعي الموتى المدنيين في مدن وقرى محددة داخل سوريا، مثل صفحة “وفيات حماة” و”وفيات النبك” في “فيس بوك”، والتي تجاوز عدد متابعيها 50 ألف متابع، وأخرى وضعت على عاتقها مسؤولية إيصال نبأ مقتل العسكريين، ومنها صفحة “شهداء طرطوس” و”الصفحة الأولى لشهداء الوطن”.
من وجهة نظر خبير مواقع التواصل الاجتماعي، طارق جزائري، فإن صفحات الوفيات تلك لم تأت بهدف تجاري لسحب البساط من صفحة الوفيات الورقية أو لتجسيد الفروقات الطبقية بين العائلات السورية، بل أتت استجابة لواقع اللجوء السوري الذي لم يعد يعرف فيه اللاجئ السوري أين ومتى توفي أحد معارفه داخل البلد.
تلك الصفحات تقدم معلومات تفصيلية عن سبب الوفاة ومكان العزاء، مرفقة بصورة شخصية للمتوفى وصورة عن النعوة الورقية الملصقة على جدران الشوارع العامة.
جزائري اعتبر في حديثه لعنب بلدي أن ميزات عدة حملتها صفحات الوفيات في “السوشال ميديا”، تجعلها مخولة بفرض نفسها وبقوة، لأسباب لخصها في قلة التكلفة وسرعة الانتشار وسهولة الوصول لأقرباء المتوفى مهما بعدت المسافات.
كما أنها توفر للسوريين في الخارج إمكانية التفاعل مع الخبر وتقديم التعزية “إلكترونيًا”، وتأدية واجبهم الاجتماعي تجاه أهل الفقيد بكتابتهم تعليقات أسفل الخبر تحمل عبارات “رحمه الله” و”إنا لله وإنا إليه راجعون”.
فيما قد تحمل صفحات كهذه طابعًا أمنيًا، من وجهة نظر الخبير في مواقع التواصل الاجتماعي، بقوله “في حال كان الميت مطلوبًا للأمن أو قتل على يد جهات أمنية داخل سوريا، فإن ذويه يخافون من نعيه في الشارع، ما يضطرهم للجوء إلى هذه الصفحات”.
ومن مجمل التحولات المتسارعة نحو عالم “الأونلاين”، بما فيها التسوق والإعلان والإعلام، وضع الموت قدمًا له في هذا المضمار، معلنًا استجابته لظروف فرضتها الحرب في سوريا، عبر فرضه نمطًا تجاهلته الصحافة السورية الورقية لسنوات.