تعا تفرج
الجماهير الكادحة تهتف للأسد
خطيب بدلة
اعتادت أذن الشعب السوري، خلال حكم حافظ الأسد، على سماع كلمة “الجمهور”، ومع أنها، في الأساس، صيغة جمع، فقد حوّلها الإعلام السوري المناضل إلى صيغة منتهى الجموع “الجماهير”، وكان يُرفقها، دائمًا، بصفة “الكادحة”، فكنت تسمع عبارة “الجماهير الكادحة” في نشرات الأخبار والتعليقات السياسية والمهرجانات الخطابية التي تقام في المناسبات كما لو أنها نقرة الـ “دُمْ، دُمْ، دُمْ” في الإيقاع البلدي.
وأما عن الكيفية التي تتشكل بموجبها “الجماهير الكادحة” فهي بالغة السهولة والانسيابية، إذ كان يكفي أن يعرف الناس، في مدينة إدلب مثلًا، أن صالة الجمعية التعاونية الاستهلاكية توزع الأرز والسكر بالقسائم التموينية، أي بسعر مخفّض، حتى ترى رتلًا من “الجماهير الكادحة” يخرج من باب الجمعية مثل الثعبان، ويتلوى ذاهبًا شرقًا، ثم ينعطف يمينًا باتجاه الجنوب، ويصمد على حالة الانتظام بالطابور ساعةً أو ساعتين، ثم ينفرط وتهوش “الجماهير الكادحة” على باب الجمعية كما لو أنها أمواج متلاطمة في بحر هائج، فإذا خطر لأحد موظفي الجمعية أن يضحك على عقول هذه “الجماهير الكادحة” يكفيه أن يعتلي برميلًا فارغًا ويعلن أن التوزيع انتهى هنا، ولكن صالة التجزئة القريبة من الكنيسة ستوزع المواد نفسها غدًا صباحًا، لترى في الصباح الباكر من اليوم التالي كميةً من “الجماهير الكادحة” أكبر بكثير من هذه تتلاطم على باب هاتيك الصالة.
كانت الجماهير الكادحة تتشكل عند باب الشركة العامة للخضار والفواكه حينما توزع بعض المواد المفقودة من السوق، وأمام باب المجمع الاستهلاكي وقت توزيع علب السمنة النباتية، وأمام محطات الوقود حينما تتوفر مادة الكاز، ويذهب قسم آخر من الجماهير إلى باب المصرف التجاري السوري للاكتتاب على السيارات الشاحنة الصغيرة، أو التركتورات، وتحتشد الألوف عند باب مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل حينما تعلن هذه المديرية أنها ستنظم دورًا للمواطنين من أجل توظيفهم في دوائر الدولة مستقبلًا، فإذا طلبت منهم المديرية المذكورة إحضار بعض الوثائق الثبوتية، ترى الجماهير نفسها تتحرك عشوائيًا لتحتشد أمام بنك الدم، لإحضار وثيقة تبرع بالدم، أو قرب مبنى الشرطة الجنائية لإحضار شهادة “لا حكم عليه”.
وبسبب الفقر، والشحار، والتعتير، وكثرة الأقساط، والكمبيالات المستحقة، وغياب الحرية، وكثرة الاعتقالات الليلية، كانت جماهير السوريين الكادحة تقف ساعات طوالًا أمام سفارات دول الخليج، حينما تطلب بعض هذه الدول دفعة من ذوي الشهادات العليا، فإذا كانت السفارة تريد انتقاء عشرين شخصًا فقط، يحضر خمسة عشر ألفًا من الخريجين الجامعيين لأجل تقديم أوراقهم الثبوتية، عسى أن يجدوا مهربًا من هذا الذل المقيم، فهم يعرفون أن نظام عائلة الأسد لا يكتفي، ولن يكتفي، بهذا القدر من الإذلال، بل سيزيد في طينهم بلة، وفي طنبورهم وترًا حينما سيحين الموعد السنوي لذكرى استعبادهم، ليساقوا، على هيئة سيل جارف من “الجماهير الكادحة” التي تحمل الصور والأعلام واللافتات، وتهتف بحياة أكبر مجرم بين العصابة التي تذلهم، حافظ الأسد، ثم وريثه من بعده.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :