حتى لا تحدث في الرقة مأساة كردية جديدة
إبراهيم العلوش
بعد مأساة كركوك، التي أودت بحلم الشعب الكردي بالاستقلال، وأضاعت مكاسب الأكراد التي تراكمت إيجابيًا لصالحهم، منذ نيسان 2003، تاريخ احتلال العراق من قبل القوات الأمريكية، تبرز الرقة اليوم كمكان لمأساة كردية جديدة، فهل من الممكن تلافي المأساة القادمة؟
انتشت بعض القيادات الكردية بالدعم الغربي لها، وقدمت نفسها كرمز للعلمانية في وسط عربي داعشي معاد للغرب، وللحرية، كما تقول وسائل إعلامهم المتشددة، وراحت جيوش البيشمركة والبي كي كي تستولي على الأراضي والمدن التي تطرد منها داعش، على مبدأ المثل الشعبي الذي يجسد حالة الاغتصاب “من الساقوط إلى اللاقوط!”. وتحوّل تجريم العرب واتهامهم جميعًا بالبعثنة، والدعشنة، إلى همّ السياسيين الكرد، ووسائل إعلامهم التي تنتشي بالدعم الأمريكي والغربي لها، وفاقت هذه الوسائل الإعلامية، وسائل النظام السوري باتهام الشعب السوري بالتخلف، وبأنه لا يستحق الحرية إلا بعد قرن على الأقل كما يردد شبيحة وقادة النظام.
إجبار المدن والقرى السورية التي تستولي عليها قوات قسد على رفع أعلام وصور البي كي كي، ونشر تعاليم وقيم حزب العمال الكردستاني، وإطلاق مسميات خيالية ووهمية على المناطق، مسلوقة على عجالة، وضمها إلى ما يدعى “روج آفا”، الذي لا يعني العرب بشيء لا من قريب، ولا من بعيد، مع فائق احترامنا للثقافة وللأحلام الكردية.
ولعل الاستيلاء على تل أبيض وإطلاق اسم (كري سبي) عليها، وتجاهل أغلبية السكان العرب فيها، وفرض الثقافة الكردية على الناس مستغلين حاجتهم للبقاء في بيوتهم، خير مثال على ذلك، ناهيك عن التلاعب بإعادة الناس إلى بيوتهم بالاتهامات الداعشية لحين خضوعهم، ومبايعتهم للقوات المحتلة، وللقائد الملهم عبد الله أوجلان، مثل مدينة سلوك التي استغرق البحث عن الألغام في بعض قراها الصغيرة سنتين ونصف، وهي وسيلة ابتزاز تبدو ناجحة للقادة وللسياسيين في قسد وتوابعها.
لسنا أعداء للشعب الكردي، ولا لطموحاته المشروعة، التي تلاعبت بها الاتفاقات الدولية، ولكن ما يحدث على الأرض، ومشاركة قسد بتدمير الرقة باستهتار وعنجهية، سيكرّس أجواء عنصرية معاكسة، يصعب اجتثاثها فيما بعد، فالناس البسطاء سيتجاهلون الطائرات الغربية التي دمرت مدينتهم وأهلهم، وسيتهمون الأكراد جميعًا بالقيام بتدمير الرقة، تمامًا مثلما يتهم السياسيون الأكراد العربَ جميعًا بالدعشنة والعنصرية، وما إلى ذلك من انفلات لا أخلاقي ضد العرب يدمر كل نقاط التفاهم بين الشعبين.
الكرد أسهموا ببناء الرقة مع أهلها، وكانوا يتوافدون، من الشمال السوري، بورشات البناء التي لا تعرف الكلل ولا الملل، فروح العمل والإخلاص ميزة يشهد بها العرب للكرد. وتزاوج الكثيرون من أهل الرقة مع العائلات الكردية، وقديمًا تحالفت العشائر العربية والكردية بحلف ولاء وأخوّة بقيادة عائلة المللي، وكان أحد قادة ذلك التحالف مدمنًا على قراءة جبران خليل جبران في بيته البسيط، ولم يكن ينظر للعرب كدواعش، وبعثيين، وهربجية، ولم يكن العرب ينظرون إلى الكرد كعملاء ومعتدين، وطال أمد ذلك التحالف منذ القرن التاسع عشر، حتى هيمنة البعث على مقدرات الدولة والمجتمع السوري في الستينيات من القرن السابق.
ما يحدث في الرقة اليوم يشير إلى حدوث مأساة وشيكة في العلاقة بين العرب والكرد، وهذا ما لا يرغب به الناس العاديون من عرب ولا من كرد، لقد سئمنا من الخراب، ومن الدمار، ومن جعجعة المستبدين، ومن صور قادتهم المتورمين، ولا نريد لهذا الخراب أن يحصد المزيد من أبنائنا، فقسد تجبر الشبان على الالتحاق بها للعمل تحت مظلة القوات الغربية التي تهدف الى الهيمنة على بلادنا، بحجة الإرهاب الذي تم تصنيعه في مخابرها، وكانت قد وكّلت نظام البعث على رعايته طوال عقود من التخريب المبرمج، والذي تحول اليوم إلى انفلات سرطاني يدمرنا جميعًا. وهذا يحتم علينا أن نعي أهمية التعايش بيننا، وأهمية التفاهم، وعدم السلبطة، والاعتداد بقوة الآخرين، فقوانا معًا أهم من كل القوى الأخرى وأكثر ديمومة، وأكثر فائدة لمستقبلنا جميعًا.
السياسيون والمثقفون الكرد الذين يصمتون اليوم عن ممارسات مشتقات البي كي كي في الرقة، وفي سوريا، يشبهون المتأسلمين الذين اعتبروا داعش محاولة لبناء دولة الإسلام، ووقعوا هم في فخها ودمرت منازلهم مع المنازل الأخرى، وقتل أبناؤهم الذين انخرطوا في البروباغاندا الداعشية، وأججوا الحقد الديني، والتطرف الإرهابي.
مأساة كركوك التي بدأت من إجبار سكانها على رفع أعلام البيشمركة، وضمها بالقوة إلى إقليم كردستان، وإلى استفتاء الاستقلال الكردي، تشبه اليوم مأساة الرقة التي يتم فيها رفع الأعلام والصور الصفراء لقادة جبال قنديل الذين يتمادون بالعنجهية، وبالتبعية للآخرين، ويجبرون أهل الرقة على الانضمام إليهم في عبادة عبد الله أوجلان ربيب حافظ الأسد وحاميه التاريخي.
من حق الكرد والعرب أن يعيشوا بسلام، وليس أن يتحاربوا، من حقهم أن يبنوا، ويتعلموا، وينافسوا الأمم والشعوب المتفوقة، بدلًا من التحارب، ومنافسة أفغانستان والصومال في حروب لن تجدي نفعًا للمنتصر في نهاية الخراب والدمار.
الرقة مدينة التسامح وقبول الآخر، فهل يقوم السياسيون والقادة المتطرفون من الأكراد بمد يد السلام إليها، بدلًا من إعطاء الإحداثيات لمن يرغب بالتدمير؟ نحتاج إلى تضامن إخوتنا الأكراد معنا في وقف عدوان الدواعش الصفر، بعد هزيمة الدواعش السود، نحتاج جميعًا لوقف الحقد ولوقف الدمار.. وهذه ليست مجرد أحلام وإنما واجب علينا، لنتمكن من العيش بسلام.. فهل هناك من يسمع؟
ملاحظة أخيرة: لقد سئمنا من اتهامات الشيفونية والبعثنة والدعشنة والأردوغانية.. فنحن نريد أن ننظر بوجوه بعضنا البعض بصدق، ولعلنا نشرب الشاي ونحن نتعاتب بدلًا من تبادل الأحقاد.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :