سيرين عبد النور – الرقة
يشكل مسيحيو دير الزور جزءًا آخر من المعاناة السورية، إذ يعانون من التهجير القسري والتضييق من قبل مجموعات متشددة أو جراء القصف من قبل قوات الأسد، تزامنًا مع نزوح أهالي المدينة عنها بعد تحولها إلى ساحة حرب، وتعطل أعمالهم فيها.
عشرات المسيحيين فقط، هم من بقي اليوم في دير الزور وأغلبهم يسكن في المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد؛ أحد الناشطين (رفض ذكر اسمه لدواعٍ أمنية) لايزال يحتفظ بالصليب ويقول لعنب بلدي “أخفيته جيدًا عن الحمقى والمغفلين، الذين باتوا مثل طاعون متنقل ينتشر بسرعة، يقتل ببرود ويدمر كل شيء”.
مسيحيو دير الزور “امتداد لجرح مشرقي مستمر النزيف منذ زمن بعيد يعود إلى حروب سابقة عاشتها المنطقة” بحسب الناشط، الذي يتساءل “لمصلحة مَن يتم إفراغ المنطقة من المسيحيين الذين يتم تهجيرهم بشكل منهجي منظم، وبناء كيانات طائفية هشة تشرعن العنصرية المذهبية والطائفية في المنطقة”، رغم أن بعضهم شاركوا في الثورة السورية، بينما بقيت النسبة الأكبر على الحياد، وبقي قليلون في صف الأسد.
وبعد معاناتهم من الأوضاع المعيشية السيئة في دير الزور جراء المعارك ضد قوات الأسد، ومن ثم “دولة العراق والشام” في مواجهة الكتائب الإسلامية والجيش الحر؛ يشكل اشتداد المعارك في مدينة الحسكة وامتدادها إلى بعض قرى وادي العاصي خطرًا يهدد الوجود المسيحي في المنطقة بالزوال، ليطوي معه وجودًا بشريًا وحضاريًا يمتد لآلاف السنين، في بلد اشتق تسميته من الوجود “السرياني” المسيحي فيه.
وتضم دير الزور 5 كنائس تتوزع بين الأرمن والسريان بشقيهم الكاثوليك والأرثوذوكس إضافة إلى عشرات العائلات المسيحية التي تنتمي لمختلف الطوائف (أكثر من 50 بالمئة منهم ينتمون إلى السريان الأرثوذوكس)، لكن أغلبهم غادر المدينة عقب اندلاع المواجهات بين قوات الأسد وقوات المعارضة، تزامنًا مع قصف المدينة من قبل الأسد الذي لم يستثنِ دور العبادة، الأمر الذي ترك أكثر الكنائس في المدينة عرضة للنهب والعبث والتدمير الجزئي والكلي، دون ترميم أي منها رغم محاولات من بقي من الأهالي حمايتها والحفاظ عليها.
ورغم أنه لا توجد إحصائيات رسمية عن عدد المسيحيين المهاجرين، إلا أن ناشطين في المدينة يتحدثون عن تجاوز النسبة 90 بالمئة، ويعبرون عن خشيتهم من انقطاع صلة هؤلاء بالمدينة التي طالما كانوا مكونًا أساسيًا فيها.
هموم كثيرة يحملها المسيحيون اليوم في هجرتهم الجديدة، لتبقى أجراسهم صامتة ومقاعدهم فارغة، بعد هجرتهم الأولى من جبال الأناضول عام 1915، عقب تعرضهم للمجازر آنذاك، لتصبح دير الزور الوجهة النهائية لهم، ما انعكس إيجابًا منذ ذلك الوقت على حالة المدينة، من زيادة في النمو والنشاط الاقتصادي، والمهن الصناعية.
ولم تقتصر حالة النزوح على فئة معينة أو طائفة بعينها بل تخطت ذلك لتشمل كل الفئات والتيارات الشعبية في المدينة، إذ شكل عدد الأهالي النازحين عنها من مختلف الطوائف 90 بالمئة، من النازحين من معبر السياسية الذي افتتح بعد شهرين، إثر تدهور الأوضاع الداخلية.
يقول الحاج أبو محمد وهو صاحب محل في شارع التكايا “الكثيرون حملوا ما بقي من أغراضهم ونزحوا… كل شيء تغير هنا”، مضيفًا “لقد صبرنا 3 سنوات لنعيش بكرامة وحرية، لكن الجميع اليوم يشعر بالضيق والخوف”؛ أصر الرجل الستيني على البقاء في المدينة، معتمدًا في تدبير أموره على بقاليته الصغيرة، لكنه اليوم يفكر مليًا بالنزوح بعد أن بات يشعر بالغربة تحاصره من كل اتجاه.
يذكر أن المدينة تعتبر المقر الثالث للبعثة الدبلوماسية الأرمنية في سوريا بعد دمشق وحلب، ويوجد فيها كنيسة “شهداء الأرمن” الصرح المعماري الذي يعتبر تحفة فنية، لكن كثيرًا من القطع الأثرية القيمة فيها اختفت جراء القصف وأيدي العابثين.