احتراف الفشل السعودي
محمد رشدي شربجي
منذ عقود لم تؤد سياسة المملكة العربية السعودية إلا إلى إلحاق الضرر بنفسها، بعزم لا يلين تمضي مسرعة للقضاء على أي نفوذ لها في أي مكان في العالم، ولا يعرف في التاريخ القريب حالة مواجهة واحدة مع أي أحد خرجت فيها المملكة منتصرة بالرغم من أنها هي دائمًا من يدفع التكاليف، ولا شك أنه من المستحيلات معرفة ماذا يدور في رأس هذه الدولة في كثير من الأحيان.
منذ الثورة الإسلامية الإيرانية وتبني إيران استراتيجية “تصدير الثورة”، استحوذت على السعودية فكرة مواجهة مشروع إيران “الشيعي”، وبلا شك فإن هذا هدف مشروع وضروري، فإيران دولة معتدية تعيث فسادًا وقتلًا وتدميرًا في عدة دول عربية، وأسهمت من خلال ميليشياتها وفرق الموت ومصاصي الدماء التابعة لها في دعم نظام إبادة نازي في سوريا، وتحرير العرب من هذا العدوان هو مسألة وجودية لهم.
بتجرد، تمتلك السعودية أفضلية أمام إيران، فكل الدول العربية هي ذات أغلبية سنية، ولدى السعودية فائض موارد مالية هائل ودعم دولي قل نظيره، ولديها قبلة المسلمين والمسجد النبوي الذي يحج له سنويًا عشرات الملايين من المسلمين من كل أصقاع الأرض، ولكن لماذا تنهزم المملكة في جميع معاركها مع إيران إذن؟ ولماذا تفقد ساحات نفوذها من لبنان إلى اليمن واحدة تلو الأخرى؟
تصر السعودية على إظهار الجانب الطائفي للصراع مع إيران، وهو جانب يصعب تغطيته بطبيعة الحال مع دولة مثل إيران تتبنى عقيدة أمن قومي مذهبي، تتعامل بموجبه مع الشيعة العرب كرعايا خاصين بها، وتسعى السعودية لذلك لحشد الجمهور السني خلفها في هذه المواجهة، ولكن بشرط واحد وهو ألا يمثل هؤلاء السنة إسلامًا سياسيًا، وهذا ما يجعل المواجهة مع إيران المتكئة على قوى الإسلام الشيعي متعذرة، فالأحداث أثبتت في أكثر من موضع أن الإسلاميين هم القوة الوحيدة القادرة على الحشد الجماهيري، وفي معركة لا تراها المملكة إلا طائفية، يبقى تخيل ذلك دون قوى الإسلام السياسي أمرًا صعبًا.
ترى السعودية في الإخوان المسلمين تهديدًا وجوديًا يفوق تهديد إيران خطورة، فهم الوحيدون القادرون على منافستها أيديولوجيًا في عقيدتها الإسلامية التي بنيت عليها، وعدا عن فترة دعم قصيرة لمناكفة عبد الناصر في مصر، حافظت المملكة على مر العقود على عداء محكم لجميع قوى الإسلام السياسي مع اختلاف الشدة بحسب المراحل والحاجة للدعم في مواجهة إيران. وفي سبيل ذلك دعمت السعودية، حيث وجد الإخوان المسلمون، تيارات سلفية في مواجهتهم على مستوى القواعد، وأمدتهم بأموال طائلة مكنتهم من غزو الإعلام بعشرات القنوات الفضائية والمواقع الدعوية، وفي نفس الوقت دعمت تيارات ليبرالية على المستوى السياسي لمواجهتهم في الانتخابات.
ومع أن هذا المسعى نجح في بعض الحالات في محاصرة الإخوان، إلا أن السعودية لم تستطع الاستفادة من ذلك، فالسلفيون عبء على من يدعمهم كما أثبتت الوقائع، وكمحترفي عدمية وعبث لا يمكن السيطرة عليهم بحال من الأحوال، ومنهم خرجت الحركات السلفية الجهادية التي كفرت المملكة قبل غيرها وشنت هجمات ضد المصالح الغربية في أكثر من مكان ما سبب مشكلات للسعودية مع حلفائها، وليس الليبراليون أفضل حالًا، فكثير منهم علاقتهم مع المملكة مالية فقط، ولن يخوضوا من أجلها أي حرب.
شكل رفيق الحريري حالة استثناء في المعادلة السعودية مستحيلة الحل هذه، فقد كان للحريري مشروع سني واضح، كما جميع أمراء الطوائف في لبنان، لتنظيم السنة في هذا البلد، دون أن يكون هذا المشروع إسلامًا سياسيًا، لقد استطاع الحريري في حالة فريدة خلق هوية طائفية لسنة لبنان بعيدًا عن الالتزام الديني. ولذلك فقد شكل حالة نموذجية للدعم السعودي. وباغتياله فقدت السعودية وسنة لبنان جزءًا كبيرًا من نفوذهم.
نعم بهذا العبث كانت، ومازالت، السياسة السعودية، مواجهة إيران بقوى سياسية سخيفة ومعدومة الجماهيرية، ثم دعم قوى سلفية تكفر هذه القوى وتحذر منها.
واليوم يبرز توجه جديد في المملكة التي حكمها على مدى العقود الأربعة الماضية مرض الزهايمر، بحسب الصحفي الأمريكي توماس فريدمان، توجه أشد عبثًا واستعجالًا على حسم معارك ليس في المنال حسمها، توجه كان دشنه محمد بن زايد في الإمارات، ولحقه به محمد بن سلمان، توجه أكثر عدائية ضد القضايا العربية والإسلامية، وأكثر تنسيقًا وتعاونًا مع إسرائيل، بطبيعة الحال، وهو توجه لن يخدم إلا إيران في نهاية المطاف ومحكوم عليه بالفشل الذي تحترفه السعودية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :