عنب بلدي – رهام الأسعد
“انتشار العنف بين الأطفال السوريين” عبارة صدعت الرؤوس عبر سنوات من الحرب، تزامنًا مع زخم من الدراسات والأبحاث والتقارير المنذرة بشؤم ما ينتظره أطفال سوريا من مستقبل، في حال لم تُؤخذ نتائجها، التي استنزفت جهد ووقت ومال من أعدوها، بعين الاعتبار.
جراح خفية وربما منسية لا يمكن إنكار وجودها لدى شريحة من الأطفال السوريين، بعد أن تعدت الجسد إلى النفس، وعلى رأسها عنفٌ كان رجعًا لصدى ما شاهدته أعينهم من بشاعة النزاعات وتبعاتها، وما عايشوه من خوف في أعين أهاليهم التي مرت عليها مشاهد لا تحصى من الدمار والقتل والنزوح واللجوء.
والأمر الطبيعي في ملف اللجوء الشائك أن ينقل الأطفال السوريون أوهام إصابتهم بـ “مرض العنف” إلى البلدان التي لجأوا إليها، مع تجاوز عددهم 65% من مجمل الأطفال اللاجئين حول العالم، حسب أرقام منظمة “أنقذوا الأطفال” الدولية.
من هنا بدأ مواطنو تلك الدول باتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع إصابة أطفالهم بهذا المرض المشؤوم، عبر منع اختلاطهم بأقرانهم السوريين، لا باللمس والهواء فقط، بل حتى بالنظر.
في وقت لم أكن أعرف فيه أن الخوف من اللاجئين السوريين تعدى الكبار إلى الصغار، ظهرت أمامي، مصادفةً، سيدة أردنية في أحد ملاهي الأطفال بمدينة اسطنبول، استوقفتني هذه السيدة مدة لم تتجاوز العشر دقائق فعليًا، إلا أنها استوقفت تفكيري أيامًا عدة، أبحث عن جواب لسؤال: “هل فعلًا يخاف المواطنون الأجانب على أطفالهم من الأطفال السوريين؟”.
بدأت السيدة، التي لم يتسنّ لي أن أسألها عن اسمها حتى، حديثها معي وهي تشكو من ضيق صدرها لعدم إيجادها روضة جيدة لطفليها في مدينة اسطنبول.
وبعد قائمة من الشكاوى عن إهمال المدارس التركية وغلاء أقساط المدارس الدولية، بادرتُ باقتراح أن تسجل طفليها في إحدى الروضات السورية، التي استقطبت أطفالًا أتراكًا ممن يرغب ذووهم بتعليمهم اللغة العربية.
استنفرت السيدة، وحاولت جاهدة أن تُجمّل رأيها إلا أنها لم تستطع أن تخفيه، بقولها، بعد عبارة “لا تواخذيني”، إنها تخاف على أطفالها من تعلم العنف من الأطفال السوريين.
وأضافت “بتعرفي أن الأطفال السوريين مر على راسهم قصص كتير بسبب الحرب، وأنا ما بدي أولادي يتعلموا منهم العنف”.
صدمة، وضيق وقت، وعدم معرفة شخصية بالسيدة، لم تسعفني لأقول لها إنه من البديهي أن نجد بين الأطفال السوريين أطفالًا “طبيعيين”، وأن بينهم من خرج من بلده قبل أن يدرك ما يدور حوله، بل أكثر من ذلك منهم من ولد قبل ست سنوات في بلاد اللجوء نفسها.
فضلًا عن أن التحذيرات الدولية وضعت على عاتق المدارس السورية مسؤولية مراقبة سلوك الأطفال ووضعه تحت السيطرة، عبر توظيف اختصاصيين نفسيين في معظمها.
خرقت دراسات المنظمات العالمية صلب المجتمعات الأجنبية المستضيفة، وترجم حسن النوايا هنا عكس ما تصبو إليه تلك الدراسات المعلنة عن ناقوس خطر دق براءة الأطفال السوريين وسلبهم طفولتهم.
الدراسة الأكبر من نوعها منذ عام 2011، والتي أجرتها منظمة “أنقذوا الأطفال”، راقبت الصحة النفسية للأطفال السوريين، وخرجت على وسائل الإعلام منذرة بأن 89% منهم يعانون جراحًا نفسية يصعب دملها.
ولعل هذه الإحصائية كان لها وقع “طنان” في أذن السيدة الأردنية، التي قررت العمل بقاعدة “الوقاية خير من ألف علاج”.
اختصاصيو الصحة النفسية أثبتوا بالعلم، قبل الإقناع، أن انتقال العنف من طفل لآخر أمر وارد، ولكن بعد معاشرة طويلة متزامنة مع عدم التفات أهل الطفل السليم لسلوكياته المتغيرة.
إلا أن أبعادًا أكثر عمقًا، طرحها المعالج والمدرب النفسي محمود عثمان، قد تفرض نفسها على قرار الأهالي بعدم معاشرة أطفالهم لأطفال السوريين، أبعادٌ ربما تحكمها عقلية طبقية، خاصة في المجتمعات العربية التي ترى في مواطنيها أعلى درجة وأكبر قدرًا من اللاجئين، إذ غالبًا ينظر إليهم وإلى أطفالهم على أنهم “مشردون”.
عثمان ترجم موقف الأهالي في بلاد اللجوء، دون تعميم هذا الموقف، من خوف على أطفالهم من عدوى العنف إلى خوف من اختلاط الثقافات، باختصار “ما تعتبره عنفًا في بلدك قد يكون مجرد سلوك خاطئ في بلدي”.
وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فالعنف عند الأطفال لا يكون مرتبطًا بالحرب وحدها، بل قد يكون موجودًا في المجتمعات الأكثر أمنًا وسلامًا حول العالم.
الطب النفسي يرى أن فطرة التقليد عند الأطفال قد تكون إحدى سبل إصابتهم بالعنف، بغض النظر عن ظروف الحرب، وذلك في حال قلدوا سلوكيات الأكبر منهم، تحت تأثير عبارات “إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب” و”شريعة الغاب”.
ومن المؤسف أن يكون علاج العنف لدى الأطفال السوريين، الذين سُلبوا طفولتهم، بإبعادهم عن أقرانهم في البلاد المستضيفة، كمن يبعد الدواء عن الداء.