الشرعي.. كمثقف انتهازي
إبراهيم العلوش
برزت ظاهرة الشرعيين في مختلف التجمعات والتنظيمات الدينية وشبه الدينية السورية، وتدفقت فتاويهم بأشكال وألوان مختلفة، ولكن أغلبها يتسم بالعنف والحض على القتل، بحجة التكفير والارتداد، وعلى الأقل إجازة النهب والسلب، وشرعنة الاعتقال والخطف.
للوهلة الأولى يبدو أن الشرعي هو العقل الديني، وهو القيادي البارز في تلك التنظيمات والتجمعات الدينية، ولكن مع مرور الزمن والأحداث، تبين أن الشرعي مجرد مفبرك لما يقوم به حملة السلاح من اعتداء على الناس، وعلى كراماتهم وأرزاقهم، وقد صرح بذلك أحد قادة الفصائل الدينية البارزة، بأن وظيفة الشرعي هي فبركة الفتاوى التي تبرر انتهاكات الأمراء. واحتج الكثير من الشرعيين في قواته على هذه المصارحة الفاضحة لشرعيين ملتحفين بالدين، ويشاركون بالاستمتاع بالأسلاب والغنائم، ويتنعمون بالمكانة الدينية، والانتشار الإعلامي الذي يضفي عليهم الهيبة والجبروت الزائفين، ومن أبرز الشرعيين المحتجين على ذلك التصريح هو المحيسني الذي احتج على تصريحات أميره الجولاني، وكان احتجاجًا من باب المعاتبة على فضح المستور.
ظاهرة الشرعي كانت غريبة على المجتمع السوري، الذي لم يعتد على هكذا ألقاب وتسميات تتدخل في شؤون الناس، إلا في المسائل الدينية الضيقة، كفتاوى الطلاق والزكاة، ومتطلبات العبادة التي يلجأ فيها الإنسان العادي إلى شيخ مطلع على أمور الدين ليرشده فيها.
ولكن بعد الثورة السلمية، ظهر حمل السلاح وانتشرت التنظيمات الدينية التي كرست ظاهرة الشرعي، وأطلقت لها العنان في التأويل والتبرير لظاهرة العنف ضد الأفراد وضد المجتمع، وكان شرعيو داعش والنصرة من أبرز المشاركين بالقتل والتدمير، الذي طال المجتمع والحياة السورية، ويكاد دورهم أن يتفوق على دور مثقفي ومنظري المخابرات وجيش النظام، في تبرير القصف، والتعذيب، والتهجير، واستجلاب الاحتلال إلى السوريين.
يستثمر الشرعي قراءاته واطلاعاته الدينية ليشارك حملة السلاح بمكاسبهم في الحرب الدائرة، وليحصل على مكانة لائقة، ودعاية إعلامية، يكرسها منتسبو التنظيمات الدينية، ويشارك بخيرات التعفيش التي يسميها غنائم، ويتزوج من يشاء من النساء، والفتيات، المضطرات إلى الزواج بسبب ظروف العوز، وتحت ضغط الابتزاز الذي يمارسه حملة السلاح عليهن، وعلى أهاليهن، ويقدمونهن كفرائس لقادتهم ولشرعييهم الذين بدورهم يضفون على انتهاكاتهم السمة الدينية والشرعية المزيفة.
المثقف في العالم العربي، وفي العالم الإسلامي لم يستطع انتزاع استقلاله، ولم يستطع انتزاع رزقه الحلال خارج السلطة عبر تجلياتها المختلفة الدينية والمدنية، فهو اضطر تاريخيًا، أن يكون شاعرًا مداحًا بشكل ملفت، وكمتدين اضطر إلى فبركة الفتاوى الدينية ليماشي القادة الذين يقذفون له ماشاؤوا من أسلاب ومن أعطيات.
وفي الدولة المستبدة الحديثة، انخرط الكثير من المثقفين في إدارات الإعلام والتوجيه السياسي ذات الخطابات الرنانة، أو تسلقوا كصحفيين يمسحون قاذورات المسؤولين، من أجل أن يحصلوا على مكانة، وعلى أجور كتابات مضمونة، وكثير منهم فبرك المعجزات التي ينجزها القادة، ناهيك عن الصمت على أفعال الاعتقال والتعذيب والتنكيل التي تتم ممارستها أمام المثقف السلطوي، والذي يكتفي بانتقاد الإمبريالية والصهيونية العالمية، وما إلى ذلك من أسطوانات باتت مشروخة لا تعني ما تقوله أبدًا. بل إن الأنظمة التي ظل مثقفوها يتشدقون بمحاربة الإمبريالية والصهيونية هي الأكثر ولاءً لتلك الإمبريالية، ولتجلياتها الناعمة، وغير الناعمة، ولعل مثقفي حزب الاتحاد الديمقراطي، فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا، المناهضين للرأسمالية العالمية هم أبرز المشاركين في التحالف الغربي، والمساهمين بإرشاد الطائرات لتدمير المدن والبنى التحتية، واحتقار البشر مقابل شعورهم بالعظمة، وهم يتصدرون صفحات الصحف العالمية، ووكالات الأنباء، وكان تدمير الرقة من أهم نتائج جهودهم في مكافحة الإمبريالية، بالإضافة إلى جهود شرعيي داعش الذين يتلطون بفتاوى الدفاع عن الدين، ليبرروا مساهماتهم الإجرامية بتدمير المدن السورية.
والحديث عن ظاهرة المثقف الانتهازي الذي يأخذ لبوس الدين أو غيره، لا يعني الهجوم على المثقفين ككل، ولا الدعوة للحط من شأنهم ومن مهامهم، فالمثقف الحقيقي لا يقل أهمية عن القائد الحقيقي، ولا عن المبدعين الذين تحتاجهم البلاد، والدول، لبناء الحياة الحرة والكريمة للناس.
فرغم أن أدونيس تورط بالعداء لمطالب السوريين بالحرية، منسجمًا مع الدور التاريخي للشاعر العربي، المتسم بالضعف أمام إغراءات السلطة وقادتها وتجلياتها، فإن شاعرًا مثل نزار قباني نسف كل مقومات النفاق والانتهازية في الثقافة العربية، ناهيك عن محمود درويش ودوره المحوري في القضية الفلسطينية، ودعمه لقضية شعبه حيث أوصلها بشعره إلى مصاف القضايا الإنسانية الكبرى، وقد برز كتاب ومثقفون كثر يدافعون عن قيم الحرية التي طالب بها السوريون في ثورة الكرامة، وبرز رجال دين التزموا جوهر الدين، ولم ينحازوا إلى انتهاكات الانكشاريين من حملة السلاح، ولم تغرهم أطايب ما يلوحون به من ثمار التعفيش والابتزاز.
الشرعي بشكله الانتهازي اليوم، ينضم إلى منتجات هذه الحرب الفاسدة، ويقف جنبًا إلى جنب مع القتلة، ومع مروجي الدعارة، والمخدرات، وبائعي الأوطان، وعبدة الطغاة، ولا بد من نزع الغطاء الديني عنه ومحاسبته، فالغطاء الديني الزائف لن يكون مبررًا لاستمراره بصناعة الجريمة والخراب.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :