عصر الكذب
محمد رشدي شربجي
قرأت خلال هذا الأسبوع كتابًا محشوًا بالكذب بعنوان “الذين يحصدون العاصفة” للكاتب الألماني المؤيد للأسد، ميشائيل لودرز، يخبرنا فيه عن المؤامرة التي حاكها الغرب الإمبريالي ضد نظام الأسد ورئيسه الشاب الذي درس في بريطانيا، وبصيغة العارف المطّلع على خفايا الأمور وبواطنها يفاجئنا لودرز، نحن الجهلة المخدوعين بشعارات الثورة البراقة، بأن قرار إسقاط النظام اتخذ من قبل الدول الغربية، عندما رفض بشار الأسد السماح بمد خط الغاز القطري ضمن الأراضي السورية، وهو هراء كرره عدة ممانعين من قبل، أمثال عبد الباري عطوان وروبرت فيسك.
لا يرى لودرز من سبب كاف طبعًا للكف عن الكذب، فتراه يكرر بعد سبع سنوات من ثورة أثبتت في أكثر من موضع أن الولايات المتحدة هي فقط من منع إسقاط النظام السوري، وأن تدخلها في تسليح المعارضة السورية لم يكن في حقيقته إلا للتأكد من التزام حلفاء المعارضة بما قررته أمريكا، ومع أن الأطفال في سوريا يعرفون أن المعارضة لم ولن تحصل على مضادات جوية قادرة على تغيير ميزان المعركة، إلا أن الكاتب لا يرى بأسًا في القول بأن مجموعة “أصدقاء الشعب السوري” قررت إمداد الجهاديين (هي تسمية المعارضة عند الكاتب) بهذه الأسلحة النوعية.
ولكن لماذا يستمر الكاتب في الكذب؟ إنها النقود بطبيعة الحال، فالرجل يبيع “معرفته” لمن يرغب، ولا مشكلة لديه في تحميل المعارضة مسؤولية الهجوم الكيماوي على الغوطة وخان شيخون في سبيل ذلك، وهو ليس طفرة على كل حال، فمراكز الأبحاث الغربية تعتاش على ذلك، وقد كشفت عدة تقارير صحفية أن كثيرًا من هذه المراكز هي إحدى وسائل جماعات ضغط (لوبيات) يحركها الداعمون بحسب مصالحهم.
وقد لا يبدو هذا غريبًا في عالم يحكم فيه نصف مجنون أقدمَ ديمقراطية، بعدما بنى حملته الانتخابية على الكذب والافتراء، واستفاد من جيوش إلكترونية تحركها روسيا لإغراق الناخبين الأمريكيين بأخبار كاذبة للتأثير على قرارهم، وهي قضية تنال اليوم تغطية واسعة في الصحافة الغربية بشكل عام.
يكذب ترامب كل يوم في كل قضايا العالم، عدا فيما يخص منطقتنا فهو يكذب كل لحظة، فترامب ملأ الدنيا ضجيجًا باستراتيجيته الجديدة لمواجهة إيران، وهو كلام ضروري بعد أن تلقى نصف تريليون دولار من دول الخليج، ولكنه يكذب فيما عدا ذلك، فهو فرض على الجيش الحر عدم مواجهة قوات النظام في البادية، وتخلى عن الكرد بمواجهة إيران في كركوك، وفي الوقت الذي يقول فيه وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، إن أمريكا لا ترغب بفرض حل في الأزمة الخليجية، تفرض أمريكا على السعودية إعادة تطبيع علاقاتها مع العراق الذي هو في حالته اليوم ليس أكثر من حديقة خلفية لإيران.
في الأسبوع الماضي ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بخبر المخرج “الهوليودي” محمد بيازيد، وتدبيره لمحاولة اغتياله علها تدر عليه مزيدًا من التعاطف والشهرة والمال المطلوب لتمويل فيلمه “النفق”، في استغلال حقير بقصد أو بغيره لمأساة شعب كامل لصناعة مجد شخصي، وتقديم خدمة مجانية لم يطلبها النظام السوري حتى.
بيد أن سلوك بيازيد ليس جديدًا على الثورة للأسف، فمع ظهور الانتهاكات والخطاب الطائفي على هوامش الثورة السورية، لم يلتزم الخطاب الإعلامي للثورة، المنهمك بمواجهة النظام بسياسة واعية لمواجهتها، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وهكذا تمت تغطية بداية التسلح والهجمات على حواجز جيش النظام السوري على سبيل المثال بأنها انشقاقات في صفوف النظام والجميع يعلم أنها لم تكن كذلك، ومع مرور الوقت تسلل ما كان على الهامش ليصبح هو المتن وانحسرت الثورة من المشهد.
إنه عصر الكذب إذن، الذي أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تعويمه وعولمته، عصر الشهرة الفارغة، والإنجازات الخرافية، والأرقام الفلكية، عصر “العلماء” والمشايخ وهم يحدثوننا عن الإعجاز العلمي في القرآن دون أن يدخلوا مخبرًا لمرة واحدة في حياتهم، عصر حراس الشريعة وهم يحولون المسلمين إلى أشلاء، عصر شباب الثورة الليبراليين وهم يتفاخرون بتحالفهم مع العسكر ضد الديمقراطية في مصر، عصر المقاومين والممانعين مصاصي دماء السوريين، إنه عصر الكذب فاصدقوا يرحمنا ويرحمكم الله!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :