عنب بلدي ــ العدد 126 ـ الأحد 20/7/2014
من أكثر الأشياء إيلامًا للناظر والمتأمل في حال المجتمع تحت ظلال الحرب التي لم تلقِ أوزارها بعد، هو تفشي الكذب والنفاق وشيوعهما، فمما لا تخطئه العين فور خروج الثوار من منطقة ما وتطهيرها من قبل قوات النظام أو العكس، تجد المنطقة وقد تحولت تحولاً كبيرًا بسرعة مدهشة لتوالي المنتصر الجديد، فكثيرٌ من البيوت التي عُرفت بتوجهها لأحد الطرفين تتلون وتداهن الطرف الآخر بعد انتصاره، وكثير ممن رفعوا علم الاستقلال يبدلونه بالعلم الأحمر ذي النجمتين أو العكس، وغيرهم ممن كانوا يصدحون بأغانٍ تراهم يهزجون بغيرها.
تباكي الكثيرين على ما يعتبرونه إحدى النتائج السلبية للثورة، وتحميلهم أوزار الناس عليها، ليس دقيقًا تمامًا بعين علم النفس والتاريخ، فالثورات والحروب لا ذنب لها بخلق ما نراه من نتائج لكنها تمزق الحجب عن مكنون النفس الإنسانية وتعريها حتى الأعماق، وتَخرج بما فيها إلى السطح، فيما يفترض بالمصلحين والمثقفين والدعاة تحليلها وإيجاد الحلول لها. وهكذا فالصدق لم يكن أصيلًا في مجتمعنا، رغم تغنِّينا به دومًا وحثنا عليه، ولست أعني بالصدق ما يُسمى في باب الفتوى أو العرف أنه صدق، وإنما أعني بهذه الكلمة أخصّ معانيها وأدقّها، أعني بها: حقيقتها.
إن الرياء وفقًا لذلك كذب، والعلاقات القائمة على المصالح كذب أيضًا، وكذا الزواج بغير حب، والتعليم بغير معرفة، وعدم الصدق مع الذات، كلّ ذلك أشكال متعددة للكذب، علاوةً على الحيل المُخادعة والكذبات البيضاء والتحايل من أجل مصلحة، كل ذلك لا يختلف أي اختلاف عن الكذب، مهما سُميت ذكاءً وحسنَ تدبيرٍ وحنكة، ومهما أُطلق على الصدق بلاهة وسذاجة، ولو بَررت الشريعة نفسها الكذب فإنه يبقى كذبًا.
الصدق ليس قيمة عليا وخلقًا إسلاميًا رفيعًا فحسب، بل هو لبنة أساسية في البنيان ولا قيام له من دونها، وإن مفاتيح المجد والقوة والحضارة والسعادة كلها تتجمع بقبضة الصدق، وعلى حبله تأتلف الأخلاق والثقة والتعاطف والإخاء والمحبة، وبغيره لن يشيع أيّ من هذه الصفات بين الناس.
لذا كان الكذب صنو الكفر، فما كان الكفر بشتّى مظاهره كفرًا إلا لأنه ينبوع الكذب، وفي هذا يقول رسول الإسلام عندما سئل «أيسرق المؤمن؟ قال: نعم، أيزني المؤمن؟ قال: نعم، أيكذب المؤمن؟ قال لا!»
ذلك لأن الصدق هو السلك الذي تنتظم فيه وحده جميع الخصال والسجايا والأخلاق العالية.
لم تدفع الثورة أحدًا للكذب، بل هي ذاتها قامت على فضيلة الحق والصدق، ورفض الباطل والكذب، لكنها تضعنا في ظروف تختبر فيها عمق قيمنا وحقيقتها، كما أنه لمن الطبيعي أن يدفع الخوف الناس لإظهار الولاء للمنتصر رغم ما في نفوسهم من البغض له، وإخفاء ما في دواخلهم خشية من بطشه، لكن وفق حدود الاضطرار ودفع البلاء .. ليس أكثر.
في المسافة بين الصدق والكذب تكمن حياة الأمم ودمارها، ومن أجل هذا ليس أمام الإنسان اليوم إلا الصدق أو السكوت، أما ثالثهما فسيعيدنا إلى ما نحاول التحرر منه ويرجعنا بأقصر طريقٍ إلى ما نسعى بدمائنا للخلاص منه، فإذا عجز اللسان عن قول الحق ولم يجد له سبيلًا .. فحسبه أن لا يدور بباطل
السكوت، ولا الكذب.