محمد رشدي شربجي
على عكس الكرد أو أقوام أخرى في المنطقة، لم يتعرض الشعب الكاتالوني للقمع والإذلال منذ أكثر منذ أربعة عقود، أي منذ وفاة دكتاتور إسبانيا فرانكو، وتحول البلاد إلى الديمقراطية عام 1975، ويتمتع الإقليم بأقصى درجات الحكم الذاتي ضمن نظام حكم ديمقراطي راسخ.
ويعتبر الاستقلال إحدى القضايا المتأزمة في إسبانيا منذ أربعة عقود، والتي استطاعت فيها كاتالونيا تقوية اقتصادها وفرض حكمها الذاتي.
الدافع الأساسي للمطالبة بالاستقلال، كما هو الحال تقريبًا عند المطالبين بانفصال اسكتلندا عن بريطانيا، هو الثروة والمال، إقليم كاتالونيا هو إقليم ثري لا يريد أن يتقاسم ثروته مع عموم الشعب الإسباني الذي سيزداد فقرًا في حال الانفصال.
في إيطاليا أيضًا أيد سكان إقليمي لومبارديا وفينيتو الغنيين في استفتاء غير ملزم توسيع الحكم الذاتي، بما يتيح لهم عدم إرسال مزيد من الأموال للأقاليم الجنوبية الأكثر فقرًا.
من الولايات المتحدة التي انتخب شعبها رئيسًا يريد عزلها عن العالم، إلى بريطانيا التي قررت الخروج من الاتحاد الأوروبي بعد أن أثقلتها تكاليف اللاجئين من شرق أوروبا، لا يسمع اليوم في العالم إلا نغمة واحدة، نريد أن نعيش لوحدنا، فلنعش برفاه وليذهب الباقون إلى الجحيم.
دعوات الانفصال والانعزال بهذا المعنى ليست أكثر من أنانية وجشع وقلة إحساس، وهذه حقيقة الثقافة النيوليبرالية الغربية، أو حقيقة البشرية ربما، وقد رأينا كيف تعامل العالم مع أزمة اللاجئين، أو مع الثورة السورية التي سببتها، وأي نظرة ضيقة وجشعة حكمت سلوك الدول الكبرى وهي تحاول الهرب من مسؤولياتها تجاه كارثة إنسانية سببتها بنفسها.
وقد كان يُعتقد على نطاق واسع أن وسائل التواصل الاجتماعي واقتصاد السوق الحر سيسهم في خلق هوية عالمية جديدة، ولكن الواقع أنها لم تخلق إلا مزيدًا من الجشع والبخل، وبالتالي مزيدًا من اللاجئين ومزيدًا من المعدمين ومزيدًا من البخلاء الذين لا يريدون أن يشاركوا أحدًا من أموالهم. وهكذا يتبنى قطاع من الشعب سياسة الدول الخارجية الأنانية ليصبح أنانيًا مثلها.
لا يمكن اعتبار المال والرغبة في الثراء تفسيرًا لكل رغبة في الانفصال بالتأكيد، ففي الحالات المذكورة أعلاه جميعها هناك عوامل ثقافية أخرى تلعب دورًا مهمًا أيضًا، هناك مجتمعات تشعر بتهديد وجودي من قبل ثقافة هجينة بدعوى العولمة، وهناك متدينون يشعرون بازدياد أنهم يعاملون بقلة احترام من قبل نظام يسعى لتدمير القيم.
من أبرز العوامل المساعدة على ترسيخ الديمقراطية هي إيمان النخب السياسية أن مصلحتها هي بغض النظر عن مصلحة شعوبها تكمن بالالتزام بقواعد اللعبة الانتخابية، وأن الانتظار لبضع سنوات في مكان محترم في المعارضة خير من حرب تدوم سنوات لن تبقي أحدًا حيًا. ليست مطالب التآخي وتآلف البشر مع بعضهم هي دعوات رومانسية إذن، هي دعوة لإنقاذ الذات قبل إنقاذ الآخر، الأخلاق ليست مجرد ديكور للخطاب، هي ضرورة لاستمرار الجنس البشري.