عنب بلدي ــ العدد 125 ـ الأحد 13/7/2014
اعتدنا أن نبني بيوتًا فارهة، أو ربما أقل ما تكون جدرانًا تقينا حرارة الصيف، وصقيع الشتاء، وتحتضن الأسرة بأفرادها، نشعر بالغربة بابتعادنا عنها، ونأنس لحظة عودتنا، فقد بات البيت وطننا الصغير، ولكن ما لم نعتد عليه أن نبني جدرانًا تقاوم صواريخ الطغاة بتماسك قاطنيها، لا بصلابتها هي، فقد باتت العودة إلى المنزل عبئًا عند البعض، ما يلبث أن يفكر بالخروج منه حتى قبل عودته.
في زاوية إحدى الحدائق حيث التحفت أسرة رامي، الذي لم يتجاوز عمره عدد أصابع اليدين، أكياسًا من النايلون جدرانًا لبيتها، يتكوم الأطفال وأمهم في تلك الزاوية، وصرير أسنانهم يملأ المكان فيكسر حاجز الصمت، يترقبون أصوات خطا أقدام فاعل خير يحمل في جعبته كسرات خبز، ليتفاجأ رامي أن القادم يحمل معه كاميرا، لا خبزًا، تغرغر الدمعة في عينيه «عمو لا تصورني وأنا جوعان، ما بتطلع الصورة حلوة، شوف ما بقدر أضحك، بس قل لهم يرجعونا ع بيتنا، مليان أكل ودفا»
وليس الفقر وحده سببًا في كره هذا الجيل للمنزل، ففي ظل غياب أحد الوالدين أو كليهما، وإن وجدا فعبوسًا قمطريرًا، وغمامة الأسى تغطي وجهيهما خوفًا على فقد أبنائهما، أو حتى عجزًا أمام بطونهم الفارغة إلا من أحشائها، يجلس عامر، اثنا عشر عامًا، والمهجّر من القابون إلى دمشق، في زاوية أخرى، بعد أن ترك قبو المدرسة التي هجّروا إليها «كان عنا عيد لما يرجع بابا ع البيت، وحامل أكلات طيبة وتياب جديدة، وأول ما طلعنا من القابون، ما لاقى بابا شغل، ودايمًا عصبي، وصار يضربنا أنا وأخواتي، ولهيك قررت أترك البيت» فلم يعد باستطاعة عامر تحمل قسوة والده عليه وإخوته، وتفريغ شحنات غضبه عليهم.
أما سلمى، 14 عامًا، فقد هجّرت من داريا، وسكنت مع بيت جدها، مع ما يزيد عن ثلاثين طفلًا في المنزل، مما زاد من توتر الأم «لما ماما بتسمع خناقات بين الأولاد بتقفل علينا باب غرفتنا، وبتحرمنا اللعب مع أولاد أعمامنا لأنها ما بتحب أمهاتهم»، فوالدة سلمى ترى أن مكوثها مع أقارب زوجها، أفقد أسرتها الكثير من الخصوصية، ولم يعد بإمكانها أن تسيطر على تصرفات أبنائها، فقد باتوا يقلّدون أولاد أعمامهم، وهذا ما لا ترضاه الأم، وخاصة في ظل عدم رضاها عما يفعله بقية الأولاد، وفي ظل تدخل جدتهم ضدها، بحجة أن والدهم معتقل، ويجب مراعاتهم بشكل كبير، مما يضعف نفوذها –على حد تعبيرها- ويزيد من استثمار أولادها لعطف جدتهم عليهم، وتحلم الأم باستئجار منزل خاص بهم، ولو غرفة صغيرة، بعد أن أفقدهم صاروخ سكود منزلهم بكل محتوياته.
ويستوقفنا منظر وائل، ابن الثامنة، المهجّر من القدم، وهو يقطع الطريق، دونما مراقبة السيارات، ولكن من سيقلق عليه، بعد أن ترك جثتي والديه تحت ركام المنزل، وخرج هاربًا يترجّل عربة يجرها بإخوته، إذ أصبحت ملاذهم الوحيد، وقد بات يتقن فن الإلحاح واستجداء النقود من المارّة.
أما عبير، 16عشر عامًا، من سكان دمشق (غير مهجّرة)، ألحقتها والدتها بمعاهد متميزة لتتابع دروسها في الصيف، ولكن عبير لا تلتحق بالمعهد، وتلهو طيلة النهار بالحدائق والأسواق والشوارع مع صديقاتها، وعندما تأتي لحظة عودتها للمنزل، يبدأ الألم يعتصر قلبها، لأنها سترجع لجو المشاحنات اليومية بين والديها، ولإصرار والدتها عليها أن تتفوق في دراستها، وتصبح طبيبة ماهرة، لا كوالدها الذي لا يحمل شهادة جامعية.
وهكذا أصبح المنزل لضيقه، أو لكثرة قاطنيه، أو لغياب أحد الوالدين أو كليهما، أو الشجار بينهما في حال وجودهما، وكذا الفقر ووقوع المنزل في منطقة غير آمنة، ناهيك عن غلاء الأسعار، سببًا في الرغبة بالبحث عن بديل لهذا المنزل الذي ضاق على ساكنيه وإن رحب.