«ودع واستقبل» مسيرة مفارقة الأهل والأوطان 

  • 2014/07/06
  • 11:41 م

عنب بلدي – خلود حلمي

في ليلة سفرهم، اكتظ مكان نزوحهم بالمودعين، الكل يذرف دموع القهر التي لم تجف منذ عامين، لم يعد لعائلة أم أحمد مكان في سوريا، إذ ضاقت بهم الأرض بما رحبت. عامان على النزوح من مكان لمكان، يداهمه الجيش ويبدأ بقصفه فيهربون بأرواحهم ويستقرون في مكان آخر، وبعد نزوحهم للمرة السادسة قرروا أن لا قبل لهم بالبقاء في ريف دمشق فلا بد لهم من الخروج خارج البلاد، أعياهم طول النزوح والتنقل والخوف من المجهول. وداع لفه شبه يقين بأن لا عودة، على الأقل لا عودة قريبة، فكان كالوداع الأخير في محطة الوطن.

أم أحمد، سيدة في الخمسينيات من عمرها، ودعت ابنها المعتقل منذ عامين وودعت منزلها في داريا عقب الاجتياح الأخير للمدينة منذ عام وسبعة أشهر، وودعت ابنتها وابنها حين أجبروا على الخروج من سوريا منذ عام ونصف، وبذلك افتقدت عائلتها فردًا تلو الآخر وغاب الأمل باللقاء من جديد. وبعد أن آلت الأمور إلى أسوأها في ريف دمشق، وقصف المنزل الذي كان يأويهم يومًا، قررت الخروج للعيش مع ابنتها وابنها في دولة مجاورة. وابتدأت رحلة تسيير جوازات السفر والتنقل بين الحواجز شهرين كاملين حتى حانت ساعة السفر. خلال الشهرين، اضطرت أم أحمد وعائلتها للنوم عند أقاربهم في دمشق اختصارًا للمسافات والحواجز لحين صدور جوازات السفر، فكانت المدة كفيلة بتعلقهم ببعضهم بشدة ليكون الفراق مرًا كالعلقم، فشهرين جمعا أم أحمد ببقايا عائلتها البعيدة المشتتة في دمشق كانت كفيلة لاستعادة ذكريات قديمة واستحضار أشخاص لم يعد لهم وجود على الأقل معهم، إما مهجرين أو نازحين أو مغيبين وراء قضبان السجون.

في لبنان، اجتمع أبو هشام للمرة الأولى بعد عامين مع عائلة أخيه التي تركت سوريا أيام المجزرة الكبرى ولجأت إلى الأردن ثم إلى لبنان، لقاء خانته الدموع حتى، وشهقات البكاء التي صدرت عن رجل في أواخر الخمسينيات كانت كفيلة لتروي قصة الوجع السوري أينما حل وارتحل. التقى أبو هشام بعائلة أخيه التي ازداد عددها ونقص في آن معًا، ابن أخيه الأكبر لازال في دمشق بينما تزوج الابن الآخر لأخيه ورزق بطفلة في الغربة، وابنة أخيه العروس، فقدت زوجها بعد اعتقاله من قبل قوات الأسد في دمشق حيث انتقلت للعيش مع عائلتها لتعيش الغربة غربتين، بعد عن الوطن وعن زوجها الذي لم تسعد به سوى أشهر قليلة.

وفي مدينة عنتاب التركية، تنتظر أمل وصول عائلتها على أحر من الجمر، عام ونصف العام مرت دون أن ترى فيها وجه أمها أو تقبل يد أبيها، تمر الساعات ببطء كأنها ترفض ذاك اللقاء، يرن جرس الباب في ساعة متأخرة من الليل، عائلتها كلها ينقصها فقط وجود أخيها المعتقل منذ عامين، ملامح والديها خطت عليها السنون والتعب ما شاءت، نحول شديد وإرهاق، أولاد أخيها كبروا وبالكاد تذكروها أو اقتربوا منها، والصدمة أنها التقت بابن اختها الذي ولد في غيابها للمرة الأولى، وبات عمره ستة أشهر ورفض الاقتراب منها كأنها غريبة، ليزيد من ألم اللقاء وفرحته التي اختلطت بين فراق الوطن الذي لن يعودوا إليه قريبًا وغصة الألم بمن تركوهم خلفهم بين القضبان، لا أحد يعلم مصيرهم إلا الله وبقايا أقرباء قد يفرق القدر بينهم إلى الأبد، وحده مفتاح منزل أم أحمد لا زال في محفظتها.. أملًا بعودة قريبة وتذكار بما كان يومًا منزلًا ووطنًا .

مقالات متعلقة

مجتمع

المزيد من مجتمع