عنب بلدي – ضياء عودة
اقتربت الخريطة الجغرافية لمشروع “الفيدرالية”، الذي تروج له “الإدارة الذاتية” في الشمال الشرقي لسوريا، من الاكتمال، بالسيطرة الكاملة على مدينة الرقة من يد تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وغدت المنطقة، بدءًا من محافظة الحسكة في أقصى الشمال الشرقي وصولًا إلى مدينة منبج في ريف حلب الشمالي إلى الرقة وريف دير الزور جنوبًا، تنتظر تحولًا جديدًا استنادًا إلى انتخابات الإدارات المحلية، المفترض إجراؤها في تشرين الثاني المقبل.
وأمام هذا الواقع طرحت تساؤلات عن المصادر الاقتصادية التي سيعتمد عليها المشروع المروج له، والتي ستكون عماد اقتصاد المنطقة في حال استقرار الخريطة على هذه الوضعية، لتضمن “الإدارة” حالة الاكتفاء الذاتي وتبتعد عن شبح العجز الاقتصادي.
حددت الإدارة الذاتية المناطق التي يشملها النظام الفيدرالي في المقاطعات الثلاث: كوباني (ريف حلب الشمالي) وعفرين (ريف حلب الغربي) والجزيرة (التي تشمل محافظة الحسكة إلى جانب المناطق التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية مؤخرًا في الرقة وشمال شرقي دير الزور). |
وتحاول عنب بلدي الوقوف على الموارد الاقتصادية التي ستكون الركيزة الأساسية للمنطقة، والخطوات المطروحة لاستثمارها أو ما يحول دون ذلك، من خلال الحديث مع مسؤولين في هيئة المالية والاقتصاد التابعة للإدارة الذاتية، إلى جانب آراء محللين اقتصاديين مطلعين على الوضع الاقتصادي العام للمنطقة.
بحسب المسؤولين، تعتمد مناطق الشمال الشرقي لسوريا على موارد أهمها النفط والزراعة، إذ تعتبر منطقة الجزيرة السلة الغذائية للبلاد قبل عام 2011، كما تعد الخزان النفطي اعتمادًا على عشرات الآبار النفطية والغازية الموجودة فيها.
ثروة نفطية مرتبطة بسياسات الدول
تضم منطقة الجزيرة حقولًا نفطية وغازية ذات أهمية “استراتيجية”، منها الرميلان والشدادي والجبسة والسويدية، التي سيطرت عليها “وحدات حماية الشعب” منتصف العام 2012، إضافةً إلى مصفاة الرميلان، وحقول كراتشوك وحمزة وعليان ومعشوق وليلاك، عدا عن الحقول الأخيرة التي سيطرت عليها في ريف دير الزور الشرقي، أيلول الماضي، أهمها كونيكو والجفرة.
ويبلغ عدد الآبار النفطية التابعة لحقل “رميلان” 1322 بئرًا، إلى جانب 25 بئرًا للغاز المسال في حقل السويدية.
تدار الحقول من قبل “إدارة حقول الرميلان” (تتبع لهيئة الطاقة)، وتتركز مهامها في إنتاج النفط الخام ومعالجته (فصل الغاز المرافق عن الماء).
عنب بلدي تواصلت مع نائبة الرئاسة المشتركة لهيئة الطاقة التابعة للإدارة الذاتية، سمر حسين، وقالت إن عدد الآبار العاملة حاليًا محدود، مقارنة مع العدد الكلي للآبار الموجودة في الحقول.
وأضافت أن العدد الأكبر منها متوقف، ويحتاج إلى العديد من الإمكانيات والمواد، والحفارات الإنتاجية لإعادة تأهيلها وتجهيزها.
وعن تصريف النفط المنتج من الحقول والإيرادات التي تجنيها الإدارة الذاتية، أشارت حسين إلى أن “هيئة الطاقة” ليست معنية بأمور تصريف النفط أو بيعه.
مصادر مطلعة أوضحت لعنب بلدي أن “الإدارة الذاتية” باشرت بتصدير النفط بعد السيطرة على المنطقة إلى كردستان العراق، ومنه إلى الأسواق العالمية، بحجم إنتاج 60 إلى 70 ألف برميل يوميًا، من حقول الرميلان.
وفي وقت سابق حصلت عنب بلدي على معلومات أفادت أن النظام السوري منح الوحدات الكردية، بداية سيطرتها على الحقول، ميزات تشغيل مقابل عائد مادي، وحصولها على قسم من النفط، وسط غموض الاتفاق المبرم بين الطرفين حاليًا.
وإلى جانب التعامل مع النظام السوري، يصرف قسم من النفط والغاز السوري باتجاه شمال العراق عبر طرق التهريب غير النظامية، إذ يتم خلطه مع نفط أربيل، بعيدًا عن المساءلة.
وتتم عملية التصريف إلى العراق عبر خطوط النفط المؤقتة التي أنشئت أثناء حرب العراق، وتأكد فيما بعد أن الشركات النفطية الكبيرة التي تدير هذه العملية هي شركات أربيل.
إلا أن المسؤولة في هيئة الطاقة نفت تمرير النفط عبر الأنابيب المذكورة، مشيرةً إلى أنه “من المؤكد عدم وجود أي أنابيب ناقلة للنفط في أي اتجاه، وأن معظم الأنابيب القديمة تعرضت للتخريب والتدمير من قبل الجماعات الإرهابية”، بحسب تعبيرها.
وأكد نائب الرئاسة المشتركة لهيئة الاقتصاد في الإدارة الذاتية، ديروك ملا بشير، حديث حسين حول أهمية القطاع النفطي للمنطقة كمورد اقتصادي رئيسي في مختلف الأحوال.
إلا أنه لا يجد في هذه “القوة” ركيزة اقتصادية لفيدرالية شمالي سوريا، لأنه ليس سلعة تجارية، بل يحتاج إلى موافقات الدول، مشيرًا إلى أن اقتصاد الفيدرالية “زراعي بحت”.
75% من اقتصاد المنطقة زراعي
يشكل الاقتصاد الزراعي حاليًا حوالي 75% من خريطة اقتصاد المنطقة، بينما تحتل الثروة الحيوانية نسبة 15%، وتضاف إليها التجارة عن طرق المعابر التجارية سواء إلى العمق السوري، أو إلى كردستان العراق مرورًا بمعبر سيمالكا، أو عبر مدينة جرابلس إلى مناطق “درع الفرات”، بحسب النائب في هيئة الاقتصاد.
وأوضح أن القطاع الزراعي له أولويات، على رأسها زراعة القمح، والتي قدر إنتاجها في الأعوام الماضية من550 ألف طن إلى 600 ألف طن، إضافة إلى زراعة الشعير والبقوليات.
وأشار إلى وجود خطط زراعية في المرحلة المقبلة، على أن تصل زراعة القمح إلى حوالي 65% من المساحات المزروعة في المنطقة، ويضاف إليها 15% خضار وقطن وبقوليات، كما توجد دراسة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الزراعية الأساسية، وخاصة القمح والبذار.
بلغت الميزانية المالية للإدارة الذاتية في عام 2016 مليارين و700 مليون ليرة سورية، اعتمدت بشكل أساسي على عدة مصادر، أبرزها النفط والغاز والموارد الزراعية، إلى جانب الرسوم الجمركية المفروضة على البضائع التي تدخل أراضي الجزيرة من إقليم كردستان العراق.
ونظرًا لأهمية القمح للمنطقة وحاجتها الأساسية له، تمنع الإدارة الذاتية بشكل خاص تصدير القمح إلى المناطق المجاورة، بينما تسمح بعبور الشعير والبقوليات سواء إلى كردستان العراق ومنها إلى تركيا، أو المناطق المجاورة في الداخل السوري.
وأوضح ديروك أن هيئة الاقتصاد تعطي إجازات نقل عبور إلى العمق السوري، منها إلى محافظتي دمشق وحلب، وقسم آخر إلى معبر باب السلامة وصولًا إلى تركيا مرورًا بمدينة منبج.
وكانت الإدارة الذاتية دخلت على خط شراء القمح، مطلع العام الجاري، لتكون منافسًا للنظام، وفق خطة لشراء 200 ألف طن، الأمر الذي من شأنه أن يحقق الاكتفاء الذاتي من القمح.
لكن الفلاحين لم يكونوا راضين بما فيه الكفاية عن التوجه الجديد للإدارة فيما يخص القمح، وسط حديث عن إجبارها المزارعين على بيعها القمح وبسعر أقل من سعر شرائه لدى النظام.
وتحظى زراعة القطن أيضًا بدور “ملحوظ” في القطاع الزراعي للمنطقة، على الرغم من تراجع الإنتاج إلى حد توقفه حاليًا، على خلفية تضرر المحالج في محافظة الحسكة، وما تحتاجه من قطع صناعية وآليات.
استثمار “فاشل” ومؤقت
على الجانب الآخر اعتبر الدكتور في العلاقات الاقتصادية الدولية والمحاضر بجامعة غازي عينتاب، عبد المنعم الحلبي، أن “مناطق سيطرة ما يسمى الإدارة الذاتية هي مناطق ذات إمكانيات زراعية كبيرة، لكن طريقة الحكم المتبعة في المنطقة، بالإضافة إلى التطورات المتلاحقة التي مرت بها العديد من هذه المناطق أدت إلى خسارة الجزء الأكبر من الموارد البشرية، والقوى العاملة والخبيرة في الحقل الزراعي نتيجة الهجرة لا سيما من فئة الشباب”.
وأوضح الحلبي، في حديث إلى عنب بلدي، أن “الاعتماد الحقيقي لهذه الإدارة في تأمين مواردها هو على النفط، وكذلك الرسوم الضخمة التي تتلقاها من خلال الحواجز والمعابر غير الشرعية على النقل التجاري حتى إلى المناطق التي تسيطر عليها”.
كما تعتمد “الإدارة الذاتية” على الدعم الخارجي من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، وكذلك دول خليجية تحت ستار الدور الذين يلعبونه فيما يسمى “الحرب على الإرهاب”، بحسب الحلبي، الذي يعتقد أن “الأوضاع العسكرية لن تدوم طويلًا لصالح الإدارة، وتعتبر حالة مؤقتة وإن طالت عدة سنوات أخرى”، مشيرًا إلى أن القائمين عليها “لن يهتموا بتطوير القدرات الذاتية لمناطق سيطرتهم بقدر اهتمامهم في تحصيل العوائد المالية بصور مختلفة أغلبها غير شرعي”.
وفيما يتعلق بالنفط، قال الحلبي إن “كل العمليات (في هذا القطاع) تتم حاليًا عبر كوادر كانت تعمل في السابق وبموافقة النظام، مع الاستعانة بالخبرات الاستشارية الغربية (…) النظام يحقق فوائد كبيرة قياسًا بعدم تحمله الأعباء الأمنية واللوجستية الضرورية لاستثمار النفط في تلك المناطق، نظرًا لما تعرضت له من تطورات عسكرية وأمنية بدء من العام 2012 “.
وفي حديث سابق للباحث الاقتصادي، هاني الخوري، لصحيفة “الأخبار” اللبنانية، قال إن “الكرد مستهلكون دون تنمية حاليًا، فالنفط الموجود في الجزيرة محدود وغير كاف لتغطية أعباء كيان أو إقليم، والمعول عليه هو التنمية الزراعية بقطاعاتها المختلفة”.
ونقلت الصحيفة حينها عن مسؤول في وزارة النفط قوله إن “إنتاج الحقول النفطية عند الكرد يجري على نحو عبثي وتخريبي، وهذا ما يسمى علميًا مصطلح قتل البئر وتخريبه”.
في سياق منفصل، سيطرت قوات “أسايش” على المصارف المالية التابعة للنظام السوري، الأسبوع الماضي، وبينها المصرف التجاري والصناعي ومصرف التوفير، في خطوة مفاجئة أثارت عدة تساؤلات حول أسبابها.
واعتبر الحلبي أن “المصارف ليست قوة اقتصادية وإنما قطاع خدمات مالي واقتصادي يستند دوره على واقع اقتصادي وإداري ومالي محيط، ولن يكون لهذه السيطرة أي أثر فيما تذهب إليه، وهي وسيلة ضغط عسكرية أكثر من أي شيء آخر”.
“إضافة مالية” من المعابر والضرائب
بالانتقال إلى طرق التصريف والعبور والعائدات الناتجة عنها، أوضح نائب الرئاسة المشتركة لهيئة الاقتصاد في الإدارة الذاتية، ديروك ملا بشير، أنه لا توجد معابر أساسية ورسمية مع حدود الشمال السوري، مشيرًا إلى أن معبر كردستان المتعارف عليه “سيمالكا” يفتح ويغلق على أساس قرار سياسي.
واعتبر أن “التجارة عبر سيمالكا تتم بصورة مباشرة من عمق دولة جارة إلى منطقة آمنة”، موضحًا أن حوالي 65% من المواد الغذائية تدخل عبره، أما ما تبقى منها فيتم الحصول عليها من معبر جرابلس بعد دفع أتاوات ومبالغ باهظة، وحوالي 35% منها يأتي من العمق السوري.
وعن القيمة المالية التي تشغلها المعابر والرسوم المفروضة بموجب الضرائب، أوضح ملا بشير أن “نسبة الرسوم على الرغم من أنها ضئيلة جدًا، إلا أنها تعطي إضافة مالية جيدة بالنسبة للاقتصاد العام”.
بينما اعتبرت المسؤولة في هيئة الطاقة، سمر حسين، أن عملية “فرض الضرائب خطوة طبقت منذ فترة ليست بالبعيدة، ولا يمكن تحديد نتائجها الآن، لكنها ستحدث تغييرات إيجابية في المرحلة المقبلة وستزيد من التنمية الاقتصادية الخدمية”.
وفي حديث سابق مع الباحث بدر ملا رشيد، أوضح أن للضرائب التي تجبيها الإدارة الذاتية دورًا في دعم ماليتها، سواء كانت هذه الضرائب على البضائع المنقولة عبر معبر “سيمالكا” مع العراق، أو على السكان بشكل عام.
وكانت عنب بلدي رصدت في تقارير عدة حالات فرض ضرائب على المدنيين في الحسكة، والتي ولّدت نوعًا من الامتعاض نتيجة ارتفاع نسب الضرائب بالمقارنة مع الدخل.
وفي 12 آب 2017 الجاري، كشفت لائحة صادرة عن “الإدارة الذاتية الكردية- منطقة عفرين”، قيمة الضرائب التي فرضتها الإدارة على الشاحنات بين ريف حلب الشمالي وإدلب.
وأوضحت اللائحة تخصيص سعر محدد لكل نوع من البضائع، إذ يجب على كل شاحنة دفع ضريبة تبلغ بين 50 و120 دولارًا على كل طن، في حال كانت الشاحنة غير مكتملة الحمولة.
أما إذا كانت كاملة الحمولة، فحددت اللائحة ضريبة قد تصل إلى أربعة آلاف دولار أحيانًا، يجب على السائق دفعها، بحسب نوع الشاحنة (هونداي، قاطرة، قاطرة مقطورة…).
عجز في الكهرباء والصناعة
في سياق الحديث عن مصادر الطاقة التي ستعتمد عليها الإدارة الذاتية في المرحلة المقبلة، تعاني المناطق الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية” من واقع “مزر” بالنسبة للكهرباء.
وأوضحت المسؤولة في هيئة الطاقة، سمر حسين، أن حاجة مقاطعة الجزيرة 500 ميغاواط، بينما لا تتجاوز الكمية التي تولدها العنفات الغازية في محطة السويدية وسطيًا 50 ميغاواط ، والتي تزيد لتصبح 60 ميغاواط شتاءً.
وقالت حسين إن 25 ميغاواط منها تذهب لتغذية الخطوط الحيوية بشكل مستمر وهي محطات المياه والمطاحن، والقسم المتبقي يوزع مع كمية الكهرباء التي تسحب من سد تشرين بشكل مقنن على المدن والقرى.
وفيما يخص السدود أوضحت المسؤولة أن الإدارة “لا تستطيع الاعتماد على كهرباء السد لأنها تولد من عنفات مائية تحتاج لكميات من الماء في بحيرة السد لتشغيل العنفات، وتقلل الحكومة التركية جريان الماء في المجرى الرئيسي، وذلك من خلال تحويل الماء إلى عدد من الروافد التي كانت جافة سابقًا”.
وتجاوزت العنفات الغازية الثلاث في السويدية ساعات العمل المخصصة لها، بحسب المسؤولة التي أوضحت أن “الهيئة تحتاج إلى الكثير من القطع، والتي لا نستطيع تأمينها بسبب ظروف الحصار (…) هي معرضة للخروج عن الخدمة في أي لحظة”.
إلا أنه ورغم ذلك بدأت هيئة الطاقة الاستفادة من عنفات سد الفرات من خلال فريق يعمل على صيانة العنفات، وآخر يعمل على صيانة الشبكة الكهربائية بين الحسكة والرقة.
ويعاني القطاع الصناعي الظروف ذاتها، وأوضح ملا بشير أن الصناعة يشوبها نقص المواد الولية، والآليات والقطع اللازمة لها، التي يعيق وصولها إلى المنطقة الحصار المفرض على المنطقة من كافة الجهات.
واعتبر أن “الصناعة عبارة عن آليات ومصانع ضخمة، أما ما يوجد في منطقة الجزيرة فهو عبارة عن مواد خام وأولية تخرج إلى مناطق أخرى لتصنيعها (…) ذهنية المجتمع في المنطقة مستهلكة تعتمد على المراحل الأولية”.
لكنه أشار إلى “عدة مشاريع قيد التنفيذ للوصول إلى الجدوى الاقتصادية وتأمين الآليات للابتعاد عن الذهنية المستهلكة”.