الإعلام السوري وانتحار المعنى
سليمان السعود
ما بين المسموح والممنوع تكاد الخطوط تختفي في الحروب وربما يصبح الرادع الأخلاقي والإنساني أضعف الملاجئ وأوهنها، والحرب السورية لم تكن استثناءً عن هذه القاعدة، فاختلطت الأوراق وتناثرت المصالح وتنوعت الأسلحة المستخدمة في هذه الحرب، لكن أخطرها كان الاستخدام المباشر للإعلام فيها، وبشكل فج ودون حدود أو ضوابط، ومن جميع الأطراف.
وربما تكون قاعدة الاستقلالية والحياد أولى القواعد الإعلامية التي تم نسفها في حدث إنساني سعى الجميع إلى استغلاله محليًا وإقليميًا ودوليًا، وشكلت الكلمات والصور والمقاطع المصورة أسلحة ثقيلة وصواريخ موجهة وقاذفات مدمرة، استخدمت بغزارة ودون أي ضابط سوى مصلحة الطرف المستخدم، لتكون تحريضًا صرفًا خاليًا من أي هدف سوى استمرار الحرب السورية وتفتيت المجتمع السوري أكثر مما هو عليه، ودون النظر إلى الدمار الذي ستخلفه ونطاقه وضحاياه الحاليين والمستقبليين.
وتناست الأطراف أن لكل حرب مدة زمنية معينة تتوقف فيها، في حين تستمر التبعات والتداعيات لعقود وربما لقرون بعدها.
وكان كل لاعب جديد يدخل إلى الميدان السوري يجهز مدافعه الخطابية وقاذفات كاميراته وصواريخ مشاهده المصورة، لتكون حرابًا يهاجم بها أعداءه ومتاريس يحتمي فيها عند الحاجة، وأدوات لتوسيع مناطق نفوذه وتدمير معنويات أعدائه وتعزيز معنويات أنصاره، وأداة قوية لتلميع صورته وتشويه صورة منافسيه وأعدائه.
دمار شامل
لكن أخطر ما في الأمر هو أن الجميع كان يعمل على تزويد هذه الآلات الإعلامية بذخيرة مستمرة، دون التدقيق في أثر هذه الذخيرة وقطر تدميرها، وآثارها المستقبلية، فالإعلام حتى كسلاح كان يجب أن يستخدم بذكاء وبشكل مدروس أكثر، شأنه شأن بقية الأسلحة التي تستخدم حسب الحاجة وضمن المعايير، فميدان الاشتباك القريب قد تفيد فيه الأسلحة الخفيفة أكثر من الأسلحة الثقيلة، ولنتصور دبابة أو مدفعية تستخدم لقنص الأهداف الصغيرة المتحركة، سيكون في ذلك إخلال بمعايير العقل والمنطق.
من الطبيعي أن يكون لكل جهة أو شخص مصالحه، وبديهي أن يدافع عنها أو يسعى ليجمع ما يؤازرها، لكن يبقى لهذا الملعب خطوطه وضوابطه ومحظوراته، وعدم إدراك هذه الخطوط والالتفات للمحظورات سيوقعنا في مشاكل آنية ومستقبلية سترافقنا لعقود طويلة.
غياب الرقابة والمحاسبة كان أحد الأسباب التي جعلت جميع أطراف هذه الحرب تتمادى دون خوف أو رادع، وخاصة في الميدان الصحفي والعمل الإعلامي، الذي كان يجب أن تتحلى فيه الأطراف بالضوابط الأخلاقية والمعايير المهنية، ليس فقط ليكون إعلامها مهنيًا وموضوعيًا، بل ليحافظ على مصداقيته أمام جمهوره، الذي كان يفترض أن يكون ولاء الصحفي له بالدرجة الأولى.
سيف ذو حدين
آثار هذا الاستخدام لم تكن سلبية بالمطلق، فقد انعكست هذه الحرب بشكل أو بآخر على تطور الأداء الإعلامي، وضخ المزيد من الاهتمام بهذا المجال الذي كان يعاني ضعفًا شديدًا في بلد مغلق مثل سوريا، وقمعًا من قبل السلطة الحاكمة، ويشهد رتابة مملة وتخلفًا في الأساليب المتبعة وضعفًا في الكوادر، وبقي يحاول أن يحسن من فعاليته بدرجة أقل من المعارضة، التي تمكنت خلال فترة قصيرة نسبيًا من إخراج كوادر فاعلة وقادرة على المنافسة وبمستوى مقبول علميًا وعمليًا، فنشأت مئات الجرائد والمجلات المطبوعة والمواقع الإلكترونية وعشرات القنوات التلفزيونية.
وحتى التنظيمات المتطرفة على الساحة السورية، أولت اهتمامًا لهذا الميدان، وخصصت له مبالغ مالية كبيرة ومجموعات متخصصة، وربما شكل ذلك نقلة، وخاصة عند كل من “القاعدة” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، وكلا التنظيمين سعى إلى تطوير كوادره وإيجاد قنوات تلفزيونية تبث إصداراته، ومحطات إذاعية تنشر أفكاره وتدعم حربه، وهذا ما شهدناه أيضًا عند مشروع الإدارة الذاتية الكردية في الجزيرة.
ربما يكون من المستحيل أن يوجد ميثاق أخلاقي أو مهني يلزم جميع أطراف الحرب السورية، لكن أضعف الإيمان هو محاولة ضبط المنشورات الإعلامية وخاصة المحلية برادع عقلي وقيمي ومهني، من خلال الالتزام بالمعايير وتذكير الصحفيين أن التحلل من هذه القواعد والمبادئ سينعكس عليهم وعلى الوسائل التي يعملون فيها في المستقبل إذا كانت تفكر بالاستمرار في الميدان الإعلامي والتطور، وإذا كان هؤلاء الصحفيون لا يرغبون بالشعور بالندم على انسياقهم خلف انفعالاتهم. وربما يكون المستثنى الوحيد من هذا التنظيمات المتشددة التي لا تعترف بقاعدة أو قانون أو ضابط.
ضياع البوصلة
تفقد الكلمة معناها عندما تستخدم في غير موضعها ولغير مقصدها، ربما يكون هذا ما قصده محمود درويش عندما تحدث عن انتحار المعنى.
هو نداء مفتوح وتوسل لكل عامل في المجال الإعلامي ليكون مقصده مصلحة سوريا وخدمة السوريين، حتى لا تفقد المهنة أخلاقها ومقاصدها، وتضيع بوصلتها في هذا الليل المظلم والرياح الهوجاء التي تذرونا في كل اتجاه.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :