عنب بلدي ــ العدد 124 ـ الأحد 6/7/2014
يبلونا الله بالحياة إلى أن تأتي سكرة الموت، ونعتقد أن إدراكنا للموت يجعلنا نتصرف بشكل مختلف، فيتكوّن في مجتمعنا أفرادٌ أكثر إنسانية، إذ باتت أيامهم معدودة وعليهم أن يحسنوا ختامها، ليغادروا الحياة بأجمل أثر يخلّفونه.
وبسذاجة ننسى أولئك الذين يهابون موتهم قبل أن ينشروا المزيد من غيّهم، لكننا نعود لنبرر هذه السذاجة، بأننا نتكلم عن الإنسان قلبًا لا قالبًا.
بل ويزيد اعتقادنا بأن المؤمنين بالموت تجدهم في أي لحظة أكثر خوفًا على أحبابهم من الفقد المفاجئ، وأقل تمسكًا بمتاع الدنيا، فهم يدركون أنهم راحلون دونه، مع مزيد من عمل جيد يصطحبونه، متيقنين بأن الموت لن يترك طاغية مهما علا في الأرض.
والأصعب من الموت الجسدي، هو البقاء على قيد الحياة مع الموت الروحي، فالميت ميت الأحياء، يمشي ويأكل كما تأكل الأنعام، ليس بميّت، وإنما تعاف الأموات عيشته الضنكا، فكل ابن أنثى وإن طالت سلامته، يومًا على آلة حدباء محمول.
ويستمر القتل في بلادنا مع التمثيل بالمقتول، وبأقل ما يمكن فصل رأسه عن جسده، لمعاقبته عما يحمل في هذا الرأس، ليس بإيحاء من الله، وإنما من آلهة اصطنعناها لأنفسنا، وبتنا نلقي بجثث إخوتنا في بطنها إرضاء لها.
وكأن كل أساطير العالم لم تخلق في أذهاننا إلا المزيد من طرق القتل، وإقصاء الآخر، فما زالت الأمة تقتل كل يوم أبناءها، مرة باسم الوطن وأخرى باسم القائد ومرة باسم الشهادة والدين ومرة لتحرير الإنسان أو لاسترداد شرفه بجريمة تمحو عار ما سبقها، وكل يكبّر على ذبيحته، والمقتول في كل الحالات ينطق الشهادتين ليبوء بإثم القاتل، فيبرّئ نفسه كما يعتقد، فلا القاتل يدري لم يقتل، ولا المقتول دارٍ لم قُتل.
ويندر أن تمر ساعة دون خبر موت أحدهم، برصاص قنّاص أو مجزرة جماعية أو صاروخ سكود أو حتى نتيجة للمواد الكيماوية، والأكثر ألمًا حتى الآن، أولئك الموتى بمجازر صامتة، وتحت التعذيب، فلا تدري الأم أتحزن على خبر وفاة ابنها في سجون الطغاة، أم تفرح له أن نجا من آلة التعذيب وأن خلّصه الله من مكان يأتيه فيه الموت من كل جانب.
إذن دعونا ومن باب إدراج مفهوم الموت في الحياة اليومية –أيام السلم- أن نستذكر تجربة ستيفن كوفي في إدخال هذا المفهوم ضمن تدريبات طلابه، حين طلب منهم أن يتخيلوا موتهم بعد ثلاثة أشهر، وأن يكتبوا رسائل ومذكرات، والمفاجأة كانت أنهم أصبحوا أكثر تواصلًا مع ذويهم وأصدقائهم ومحبيهم.
دعونا نجرّب هذه الطريقة، وكل منا يتخيل لحظة موته، وماذا يريد أن يتكلم الناس عن آثاره الباقية، بل لنستبق الخيال خطوة، ونفترض أننا خبرنا لحظة موتنا، فما هو سلّم أولوياتنا الذي سنصعده؟
نحن نؤمن بالموت، وندعو أن يميتنا الله ما دام الموت راحة لنا من كل شر، وأن يحيينا إن كانت الحياة زيادة لنا في كل خير، ونسعى لها وكأننا نعيش أبدًا، فهل عسانا كما يرى محمود درويش «نرقص بين شهيدين نرفع مئذنة للبنفسج بينهما أو نخيلًا.. نزرع حيث أقمنا نباتًا سريع النمو، فنحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلًا».