رمضانيات الزمن العاثر
أسمية صالح – دمشق
يبدو أن الرمضان الرابع منذ اندلاع الأحداث في سوريا سيكون ذا ملامح لا تشبه سابقيه، ناهيك عن أن يشبه رمضانات الأعوام السابقة؛ إذ لم تسلم المظاهر الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالشهر الكريم من تبعات العنف المتصاعد وتردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية والخدمية في البلاد. رؤية الهلال، وموعد اليوم الأول من رمضان لم يعد العنوان الأول لأحاديث الشارع؛ فوسط أخبار يومية عن قذائف هنا وهناك، وعن اختطاف فلان واعتقال آخر، خفتت نقاشات «السبت ولّا الأحد» بانتظار قرار القاضي الشرعي.
اقتصاديًا تراجعت الحركة الشرائية خلال الأيام التي سبقت بداية الشهر، فرغم أن العديد من العائلات المقيمة في دمشق أو بعض أريافها سارعت لشراء مستلزمات عيد الفطر نظرًا «لصعوبة التسوق نهارًا بسبب الحر، واستحالته ليلًا بسبب الأوضاع الأمنية»، فلم تشهد الأسواق الرئيسية في دمشق ازدحامها المعهود قبيل رمضان، وكان التوجه الأكبر نحو الأسواق الشعبية و «البسطات» ومحلات البالة التي باتت معروفة بـ «الألبسة الأوروبية»، حيث تتوافر سلع أقل جودة بأسعار أرخص.
وسيكون لمائدة رمضان الشهيرة نصيب من هذا أيضًا، فضيق الوضع المادي كان قد فرض على كثير من العائلات الاقتصار على الضروريات، ومع ارتفاع الأسعار قبيل رمضان أصبح ذلك واقعًا لا مفر منه، ليأتي سوء شبكة المياه والكهرباء ليزيد الوضع تدهورًا. معظم العائلات النازحة، والتي باتت تشكل النسبة الأكبر في المناطق «الآمنة» في العاصمة وأطرافها، تعتمد بشكل رئيسي على ما يصلها من المعونات الشهرية و «تداري» استهلاكها إلى أن يحين موعد الدفعة التالية من المعونات. وتراجعت عادة تموين المواد الاستهلاكية إلى حد كبير، فيما كانت «المونة» قد اقتصرت سابقًا على كميات متوسطة وقليلة من البقول، خزن معظمها بطريقة «التيبيس» التقليدية التي كان قد كان قد تخلى عن استخدامها كثيرون مع توافر بدائل التبريد.
عائلة أم محمد، والعديد من العائلات الأخرى، فقدت القليل من «المونة» التي كانت قد خزنتها بسبب طول فترة انقطاع الكهرباء. تقول السيدة أم محمد بنبرة تجمع بين الحسرة والمواساة «إذا ضل الحال هيك برمضان لنشتهي كاسة المي الباردة… بس النا أجر وثواب».
أما صحن السلطة أو الفتوش، الذي لم يعد يقل كلفة عن غيره من الوجبات، فبات بعيد المنال، وعن ذلك يوضح أحد الباعة لعنب بلدي أن غلاء أسعار الخضار والفواكه يعود لمحدودية توفرها في بعض المناطق، وصعوبة سقايتها مع شح المياه، إضافة إلى كلفة نقله والصعوبات عند الحواجز الأمنية التي تمنع أحيانًا إدخال هذه المواد أو تتسبب بتلف قسم منها أثناء تفتيشها، ويضيف إن تزايد كلفة تخزينها في ظل انقطاع الكهرباء يؤدي لارتفاع أسعارها أيضًا.
أما في داريا، وحسب وصف أمل المقيمة هناك، فلا تحضيرات معينة لرمضان في ظل الحصار وغياب معظم المواد الاستهلاكية، وتقتصر مؤونتهم على بعض العدس والأرز.
اجتماعيًا، ظهر الاختلاف جليًا أيضًا، ولكن أبدع السوريون في التأقلم مع التحديات الجديدة، فمن قلب المدينة المحاصرة تضيف أمل بأنه لا يخلو من أن «يتذكرك» أحد المحاصرين في الداخل أيضًا «بحبة بندورة أو القليل من الباذنجان» وتتابع بأنه قد يتسنى لعائلتها الحصول على بعض من الكوسا المزروع في المدينة، «رمضان شهر الخير ونتأمل أن تكون الأوضاع أفضل».
وكذلك أم وائل النازحة من الغوطة الشرقية، تقول إنها ستهدي «سكبة» إلى جيرانها في النزوح، والذين باتوا بمثابة «عائلتي»، وتوضح أم وائل أن «السكبة» لا تحتاج لأن تكون «مجللة باللحم واللوز» لتحقق الغاية منها، فهي تعبير عن المودة و»الجود من الموجود»؛ وتتابع أم وائل حديثها لعنب بلدي عن الأجواء والعادات الاجتماعية الرمضانية «لا تتيح الظروف لنا تبادل الزيارات للتهنئة بالشهر، لكن أقل ما يمكنني فعله أن أتصل بأقاربي هاتفيًا وتكون فرصة لأطمئن عليهم بعد أشهر من البعد». وتضيف سماح، ابنتها، «جيلنا يتبادل المعايدات والتهاني عبر الواتس اب والفيسبوك، فنتبادل العبارات والصور وحتى الدعابات التي نخفف بها عن أنفسنا قساوة الظروف التي نعيشها».
أما هلا، التي اختطف زوجها قبل أكثر من عام في دمشق، تقول إنها قررت أن تمضي رمضان مع عائلتها وعائلة زوجها المقيمتين في لبنان حاليًا، «أريد أن أعوض أطفالي عن الحنان الذي فقدوه بغياب أبيهم ويعيشوا أجواء رمضان في جو العائلة، لا في جو من الحزن والترقب»، وتضيف هلا أنها اشترت ثيابًا جديدة وألعابًا لأطفالها لتفاجئهم بها عند قدوم العيد، وتأمل «أن يكون عيدنا عيدين بعودة زوجي». أما الحاجة أم محمود فاعتبرت أن رمضان لن يكون كما كان سابقًا أبدًا؛ فلم تبق عائلة لم تذق لوعة فقدان أحد أحبتها، وستختلط دعوات الإفطار وأحاديث موائده بغصة الأمهات ودموعهن متمتمات بدعوات الرحمة والسلامة لغيابهن، وتعقب أم محمود بالدعاء بأن يلهم الله الصبر لجميع الأمهات.
منذ بدء الثورة، ورمضان يأتي على السوريين عامًا بعد عام بظروف أقسى وأمر، يختفي خلالها باعة التمر هندي والعرقسوس والناعم والمعروك وسط زحام ممن لم يجدوا سوى الحدائق العامة ملاذًا لهم، فافترشوا أرضها بما حملوا من أمتعتهم، ولا سقف يؤويهم غير سماء تمتزج فيها أصوات المآذن بأصوات القصف، ومع ذلك لم يكن رسم ابتسامة وسط سيل من الحزن عصيًا على السوريين، فهو لا يحتاج لمعجزة، لكن لإرادة الحياة التي لم تفارقهم مرة خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :