إبراهيم العلوش
من يشاهد الرقة اليوم في الفيديوهات الصادرة من مختلف وكالات الأنباء، ومن يسمع شهادات الفارين من الجحيم المستعر فيها، لا يخطر بباله إلا هيروشيما وناكازاكي، بعد ضربهما بالقنابل النووية عام 1945، ولعل حجم الدمار والتخريب في الرقة اليوم يفوق ما حل بالمدينتين اليابانيتين.
في الرقة، التي كان يعيش فيها أكثر من مليون إنسان بين ساكن ولاجئ إليها، لا يوجد اليوم شارع أو بناء أو مكان عام، ظل على حاله، لقد تم تدمير كافة المباني العامة، وأكثر من 60% من مباني وأحياء المدينة بشكل تام، بقنابل وصواريخ الطائرات الأمريكية والغربية، وبقوة تدمير تعادل التدمير الناجم عن قنبلة نووية، وتم ذلك بإرشاد من قبل “قسد” التي تقتصر معظم مهامها على إعطاء إحداثيات القصف، والتخريب لمدينة لا يكترث مقاتلو “قسد” بمصيرها، بل لا يكنّون أي حب لها، ويعتبرون مهمتهم الانتقام والتخريب بسبب ما ارتكبته “داعش” التي دمرت عدة أحياء في كوباني (عين العرب)، وحمّلت قسد أهل الرقة مسؤولية جرائم داعش وإرهابها، وحكمت على الرقة وعلى أهلها بالدمار.
لم يطق الدواعش الرقة ولا أهلها، لأن القسم الأعظم من أهلها لم يشارك بترويج أكاذيب داعش، ولا بترويج إرهابها الصبياني الذي جرّ الدمار والخراب على الرقة وعلى أهلها، وقد قامت داعش باستقدام أنصار لها من خارج الرقة لتتمكن من السيطرة على المدينة، وعلى من تبقى من أهلها. وأفتى شرعيو داعش بأن كل حجر يُدمّر في الرقة فيه ثواب لمقاتليها، ويؤجرون على كل ما يجرون من دمار، وتخريب، على هذه المدينة، التي استخفت بالدواعش وبخليفتهم المتأله، لقد قام الدواعش بالدور المنوط بهم أحسن قيام، فالنظام فشل بتهجير أهل الرقة ببراميله، وبصواريخه، بعد تحريرها من سيطرته في آذار 2013، وقام الدواعش بالدور فهجّروا أهل الرقة ونهبوا بيوتهم وأطلقوا عليهم مختلف الألقاب، حيث تكمل ألقاب النظام، التي كان يطلقها على السوريين من خونة، وعملاء، لتتحول على يد داعش إلى مرتدين وكفرة وجبناء وما إلى ذلك مما تثمر أشجار حقدهم العلني.
وقوات قسد رفضت مشاركة أهل الرقة بتحريرها، بحجة أنهم خونة، ودواعش، وبعثيون، وحتى الجربا الذي تنازل لهم حتى خرّ على ركبتيه لم تنفعه تنازلاته، وتم استبعاد قواته ومنعها من الدخول إلى أماكن كثيرة ومهمة في الرقة.
اليوم وبعد كل هذا العبث، الذي يجره صبيان يعطون إحداثيات وهم مختبئون كالجرذان، ويعبثون بحياة الناس وبأملاكهم وأرزاقهم، حيث تقتصر مهامهم القتالية على تنظيم التخريب، فأي مقاتل صغير منهم يستطيع أن يجلب سربًا من الطائرات فوق حارة يحيلها إلى خراب، خلال ساعات قليلة، بحجة أن طلقة خرجت منها، وعندما ترى الفيديوهات التي تتناقلها وكالات الأنباء، يخرج مقاتلو قسد يتضاحكون وهم يشيرون إلى بناء كامل تم تدميره، أو إلى حي كامل وهو يتحول إلى خربة.. وطبعًا يوجد أثناء التصوير مقاتلة من جبال قنديل تلبس شالًا مزهّرًا، وتطلق طلقتين، ومراسلًا بريطانيًا أو أمريكيًا ينحني له مقاتلو “قسد” بكل دونية، فيما يتحدثون بعنجهية عن سكان الرقة، ويصفون كل الجثث الملقاة في الشوارع بأنها للدواعش الذين انتصرت عليهم قوات “قسد” البطلة، مع وجود طاقم من القوات المتأهبة للنهب والسلب، قبل أن يرجع الناس إلى ما تبقى من بيوتهم، وهذا الكلام تردده كل ألسنة الناجين من الدمار، ومن الخراب، وقاله أهالي القرى المحررة من داعش، والمحتلة من قبل “قسد” علنًا وأمام الكاميرات.
تقصف الطائرات ويتضاحك مقاتلو “قسد” أمام الكاميرات التي يصورون أنفسهم بها، أو تصورهم بها وكالات الأنباء العالمية، ويفر إرهابيو داعش، ويظل المدنيون تحت الأنقاض يئنون ليلًا ونهارًا، ويتمنون الموت، ولا أحد يلتفت إليهم، لا القوات القسدية المبتهجة بكونها أجيرة محبوبة للأمريكيين وللغربيين، ولا الدواعش الذين بنوا عقيدتهم القتالية على احتقار الناس، واحتقار أهل الرقة خاصة، ويستكثرون على الناس شربة ماء من الآبار التي حفروها ليشرب مقاتلوهم.
مأساة الرقة وتدميرها عن بكرة أبيها لن تمر بسهولة خلال السنوات المقبلة، وربما حتى خلال العقود المقبلة. والذين أسهموا مع الدواعش بتدميرها لن ينساهم الناس المنكوبون أبدًا، مهما حاولوا تجميل أنفسهم، وتجميل فعلتهم الإجرامية بحق مدينة الرقة، وأهلها، وتدميرها عن سابق قصد وتصميم، وليست أرواح الناس رخيصة عند أهاليهم، ولا بيوتهم بلا ثمن وبلا قيمة، فقد صرفوا دماءهم وهم يبنون هذه البيوت التي يتضاحك مقاتلو جبال قنديل أمامها وهي تدمّر، وتخرج إرشادات تخريبها عبر هواتفهم الحديثة، و كمبيوتراتهم التي ترسل الإحداثيات، وتوجه الدمار المجاني في المدينة الغالية على أهلها، والكريهة بالنسبة للدواعش، وكذلك بالنسبة لقوات قسد المحتلة.
خلال أيام سيعلن خبر تحرير الرقة، وسيرى العالم حجم الجريمة الكبرى المرتكبة بحق الرقة، وبحق أهلها، وبحق النازحين إليها، جريمة لن تمحوها المكاذبات، ولا النفاق المجاني، ولن تمر أبدًا بلا عقاب، مهما مرّ الزمان، ومهما موه القتلة والمجرمون جريمتهم، ومهما غيّروا أسماءهم وانتماءاتهم، هذه المدينة التي تم تدميرها اليوم على أيدي الدواعش وبقنابل الطائرات الغربية، وإرشادات قوات قسد، لن ينسى أهلها أبدًا ما حل بها، ولا من قاد الخراب إليها، وما استبعاد أهل الرقة من المشاركة بتحرير مدينتهم واستقدام قوات من جبال قنديل بدلًا منهم، إلا جزء من تخطيط محكم لهذه الجريمة الكبيرة.
الرقة بوضعها المأساوي اليوم لن تكون مدينة محررة تفرح بهذا التدمير الواسع النطاق، ما لم تتم محاكمة المجرمين والمتورطين بتدميرها من كل الأطراف، وما لم يتم الإسراع بإعادة بناء بناها التحتية، وتعويض الأهالي عما أصابهم من هذا التحرير المروّع، الذي يشبه تحرير هيروشيما وناغازاكي.
ويجب أن يتنحى المشاركون بتدميرها عن القبض على قرارها، وعن الابتزاز والتلاعب المخابراتي بمصيرها، وكذلك التراجع عن سلب قراها الشمالية وإلحاقها بمسميات لم يسمع بها أهلها، ولا يرغبون أبدًا بالتحاقها بجبال قنديل المتفرغة للحروب وليس للسلام والبناء والتآخي.
الرقة اليوم بحاجة إلى إنقاذها من نتائج هذا التحرير الوحشي، الذي تفوق نتائجه نتائج حرب نووية.