عنب بلدي – حنين النقري
كأي غريب يقرر التخفيف من حدة غربته، يحاول السوريون في أي مكان يحلّون فيه أن يبنوا لأنفسهم عالمًا يشبه، ولو قليلًا، ما أُجبروا على تركه بأبسط المواد والموارد المتاحة، يستعيضون عن نقص مادة ما بأخرى اكتشفوا فيها خواص مشابهة، فتجد على مواقع التواصل ومجموعات السوريين حلولًا كثيرة ابتكرتها الحاجة وتناقلتها العائلات بعد أن أثبتت جدواها، من قبيل “وصفة كنافة بالمعكرونة”، أو “طريقة مجربة لصنع مربى الباذنجان بدون كلس”، وجميعها تشترك في إظهار مدى الجهد المبذول لتجاوز حدود المجتمعات الجديدة، وكمية الاختلافات الثقافية التي يواجهونها فيها، وإن بدت للبعض طفيفة وثانوية.
“بداية لجوئي إلى تركيا، كنت أعزو عدم عثوري على المنتجات التي أريدها بسبب عائق اللغة، لكن بعد أن تعلمت اللغة اكتشفت أن الأتراك لا يستخدمون أصلًا المواد التي أبحث عنها”، تقول منى (29 عامًا)، وهي سيدة سورية مقيمة في طرابزون.
كيف كبر الأولاد الصغار؟
كان “حليب نيدو” أو الحليب الجاف، أولى السلع التي اكتشفت منى عدم توافرها في مراكز السوبر ماركت التركية، تقول “أعتمد في مطبخي على الحليب البودرة بشكل كبير، وغالبًا ما أحتفظ بعدّة ظروف في ثلاجتي لأي وصفة عاجلة أضطر فيها للحليب، بسبب إمكانية تخزين الحليب الجاف لفترة طويلة، وهكذا عندما أقمنا في طرابزون كنتُ أتوقع أن أعثر على علب حليب نيدو العالمية الشهيرة (حسب الإعلانات التي كنا نشاهدها) على رف بارز في السوبر ماركت، لكنني لم أجدها، بحثت في عدة متاجر سوبرماركت، ولم أجدها، وجدت فقط علب حليب للأطفال الرضع، والحليب السائل المبستر”.
بضائع موجهة
كان غياب سلعة أساسية كالحليب المبستر أمرًا غريبًا بالنسبة لمنى، تعبر عنه بمزحة نشرتها بين صديقاتها “اعتدنا على شعار إعلان نيدو الذي يقول (مع نيدو كبروا الولاد الصغار)، والسؤال هو كيف كبر أطفال تركيا بدونه؟”.
تأكدت السيدة من عدم بيع الحليب الجاف في المتاجر التركية من عدة مجموعات للسوريين في تركيا ومن أستاذ اللغة التركية، وتقاطعت تجربتها مع تجربة إحدى صديقاتها في ألمانيا، تقول “لست متأكدة من ذلك لكنني قرأت في إحدى مجموعات السوريين أن حليب نستله ممنوع في تركيا لأسباب تتعلق بالمنافسة وتشجيع المنتجات الوطنية، فيما بعد فوجئت بصديقتي في ألمانيا تشاركني نفس الحال: لا حليب جاف للبالغين هناك، وهو أمر مثير للشك، فهل هذه البضائع موجّهة فقط للشرق الأوسط؟”.
بماذا تستعملون الباذنجان الصغير؟
بدورها، تحمد السيدة “أم وليد” (48 عامًا) الله على إقامتها في ولاية هاتاي التركية، حيث يشاطرها مئات آلاف السوريين العيش فيها، ما يجعل المنتجات السورية متوافرة بسهولة، ويغنيها عن البحث عن بدائل والحلول الالتفافية، تقول “هنا في اسكندرون كل شيء موجود، البضائع سورية أصلية وليست تقليدًا، وهو أمر تشترك فيه جميع المدن التركية التي تحتوي جالية سورية كبيرة، مثل اسطنبول ومرسين وعنتاب وأورفا، لكنني مع ذلك أواجه أسئلة مستغربة من جاراتي التركيات أو السيدات اللواتي أصادفهنّ في البازار، فمثلًا كنت أنتقي الباذنجان الصغير للمكدوس عندما شهقت سيدة تركية بجانبي وسألتني: ما الذي ستفعلينه بباذنجان بهذا الحجم، إذ يميلون غالبًا لشراء الباذنجان بحجم كبير للغاية”.
تضيف “أم وليد” عن وجود اختلافات أخرى لا تتعلق بالطعام، تشرح “مثلًا لا يركّب الأتراك مناخل للنوافذ لمنع دخول الحشرات، ولا أباجورات، وليس لديهم بلاليع في المنازل إلا في المطبخ، وهو ما يعني عدم وجود تعزيل أيضًا، هذا الأمر مشترك مع مصر إذ لا يوجد لديهم بلاليع ولا مفهوم التعزيل الموسمي”.
حقوق الملكية الفكرية
العديد من المواقع ووسائل الإعلام الألمانية تنشر مقالات تحذر فيها اللاجئين من خطر التحميل غير القانوني للمواد المحمية، محاولةً توضيح القوانين المتعلقة بذلك، ومن بينها دويشته فيله والتي بسطت الأمر بأن “كل ما يجب شراؤه في المتجر لا يمكن الحصول عليه بالمجان في الإنترنت”، مع التنبيه أنه وفي حال تم تحميل مادة محمية بقوانين الملكية الفكرية من شبكة محلية لاسلكية، فإن كلًا من الشخص الذي قام بالتحميل وصاحب الشبكة المحلية يتحملان المسؤولية. |
رغم ما ذكر، تبقى الاختلافات الفكريّة هي أكثر الصعوبات التي يواجهها السوريون في المجتمعات الجديدة، ومن بينهم موسى (39 عامًا)، وهو لاجئ سوري مقيم في ألمانيا، يقول “في أوروبا ورغم بعدها جغرافيًا عن الوطن العربي إلا أنه بإمكانك إيجاد كل السلع والمواد الغذائية، من المحلات السورية في أماكن وجود الجالية، أو من محلات الأتراك، لكن الأصعب هو الاختلاف الثقافي الفكري بين الناس”.
لم يكن موسى يحيط بأدنى فكرة عن قوانين الملكية الفكرية أو المساءلات القانونية عند تجاوزها في بداية إقامته في ألمانيا، وهو ما عرّضه لموقف جعله يدفع ثمن ذلك غاليًا، يقول “في سوريا نحن معتادون على استخدام البرامج (المكرّكة) وبيعها في المحلات بشكل شرعي تمامًا، كذلك تحميل الأفلام والأغاني والمسلسلات من شتى المواقع على الإنترنت، وهو ما استمررت بفعله لأسلي نفسي عن الغربة، لكنني فوجئت بمخالفة تصلني وتفيد بوجوب دفع غرامة مالية قدرها 800 يورو بسبب مخالفتي قوانين الملكية الفكرية بتحميل فيلم من موقع تورنت، في الحقيقة كانت غرامة جهلي بقوانين البلد الذي أقيم فيه”.
بطارية!
لم تعرف فرح (26 عامًا)، طالبة طب أسنان مقيمة في ألمانيا، أي ذنب اقترفت عندما شهقت صديقتها الألمانية أثناء تبديلها بطاريات جهاز التحكم عن بعد، وصاحت بها “لم أتوقع أن تفعلي ذلك”، تشرح فرح الموقف “بعد مشاهدتها الارتباك على وجهي وعدم فهمي ما الذي فعلتُه، وضّحت أنني أستخدم نوع بطاريات لا يعتبر صديقًا للبيئة، وهو أمر له رمز خاص على المنتجات، وأعطتني محاضرة طويلة عن ذلك وعن الفروقات بين أصناف المنتجات وأي ضرر تخلّف على الأرض، في الحقيقة لم أجد رد فعلها مبررًا لكنني أحترمه، كونها ثقافة البلد المستضيف لي”.
تضيف فرح أنها تعرضت لمواقف عديدة مشابهة في جلساتها مع أصدقائها الألمان، تقول “مثلًا قيمة الحيوان والحشرات هنا عالية، ولها حقوقها وواجبنا أن نحترمها مهما كانت مزعجة لنا، لا يجب قتل الحشرات وإنما إخراجها من المنزل بحب وإعادتها للطبيعة، وهو بالطبع مخالف لما كنا نفعله في سوريا والممارسات التي كنا نرتكبها بحق الحشرات”.
يبقى ذلك هيّنًا، بالنسبة لفرح، مقارنة باختلافات أكثر عمقًا وحساسية للاجئين العرب والمسلمين، وتشرح ذلك بأمثلة “يواجه الكثير من المسلمين صعوبة في تفهم كون البيرة المشروب الأول للألمان ويجب أن تكون على كل مائدة تجمعهم، كذلك مناقشة المواضيع الجنسية دون تحفظ، العلاقات الجنسية الحرة والمثلية الجنسية المعلنة، الثقافة الجنسية التي تُدرّس للأطفال في المدارس وما تثيره من حساسية، هذه أمثلة بسيطة عن مواضيع تواجهنا كلاجئين كل يوم، ولم نتأقلم معها بعد”.