في مقهى الانترنت
عنب بلدي ــ العدد 122 ـ الأحد 22/6/2014
لعل تسمية «مقهى الانترنت» لم تكن حين أطلقت ذات معنىً يتصل بما تعنيه كلمة «مقهى» تمامًا، فهي مكان يفتح كل منا فيه شبكة الانترنت ﻷداء مهام ومصالح عديدة، إلا إذا أتيح لك شرب فنجان من القهوة فيه.
لكنني أعتقد أن الأحداث والوقائع التي تجري اليوم داخل المقاهي، في المناطق المحاصرة تحديدًا، تجعلها تستحق بجدارة مسمى «مقهى»، مع جزء من إنترنت يسير.
فما إن تحط رحالك في أحد مقاهي الانترنت المنتشرة بكثرة، نتيجة لانقطاع الاتصالات منذ ما يزيد عن عام ونصف عن الغوطة الشرقية مثلًا، حتى تتفاجأ بمدى ازدحامه وبالأصوات الكثيرة المختلطة فيه والتي تذكرك بعبق المقاهي القديمة. فعن يمينك أمٌّ تحاول التواصل مع ابنتها وتكرر «ألو.. ألو … صوتك مو واصل، جربي من الفايبر بيجوز أحسن»، وعن يسارك إحداهن تتواصل مع أخيها في دبي «بيسلم عليك أبوك، وبيقلك إذا فيك تحول له شي مبلغ …». يختلط مع كلام تقوله جارتها لزوجها في مصر «ما تاكل همنا.. رح نبيع السيارة ونشتري حنطور وحصان وابنك يشتغل ببيع الخضرة..». ولك أن تتخيل كم يتناغم الكلام عن الأحصنة والعربات مع حديث إحداهن الهامس لخطيبها البعيد، والذي لن تتمكن مهما أصغيت من سماعه، يعلوه من حجرة الرجال صوت يقول «والله يا أخي شو بدي قلك… يعني كيلو الشعير صار بألف ليرة».
بينما تتحول هذه المكالمات الودية أحيانًا إلى مشاجرات ومهاترات بين الداخل المحاصر والخارج المغترب «كلكون بتقولوا قلوبنا معكم وحاسين فيكم، والله ما حدا متخيل صعوبة الظروف هون».
ما تسمعه من اختلاط الأصوات عن الشعير والأحصنة والتغطية والأسعار، لا يخلو من مشاهد حميمة بدموع أمّ أتاح لها الانترنت رؤية ابنها المغترب بعد طول انقطاع «تقبر قلبي يا أمي… الله يجمعني فيك»، ويغص صوتها ببكاء ملتاع»، «والله يا أمي عايشين أحسن عيشة، مو ناقصنا إلا شوفتك»؛ تتحايل على ابنها بذلك وأنت تعلم أنها بالكاد تدبرت تكلفة مكالمته.
ومن أكثر الكلمات التي ستسمعها إن قصدت أحد مقاهي الانترنت هنا، كلمة «قالولنا الطريق لح يفتح»، إذ يعيش المحاصرون أيامهم على أمل هذه الكلمة ذات المعنى الفضفاض والموعد غير المحدد دومًا.
مشاعر كثيرة مشتركة، هموم واحدة تختلط الكلمات لدى بوحها بها، أصوات متشابهة ودموع ووعود وأمنيات، شوق مشترك بين الجميع لعزيز بعيد أو أكثر، وانتظار واحد لفرج لا يلوح في الأفق.
سرعة الانترنت في المقهى ربما لن تسعفك حتى لتحميل ملف «بي دي إف» تحتاجه، لكنها لن تعيقك عن خروجك منه محمّلا بألف همّ وهمّ، بشوقك وأشواق كل من شاركتهم الأحاديث تلك.. كل هذه اللحمة الاجتماعية تجعل المكان مقهىً حقيقيًا عابقًا بالتشارك الإنساني بحق.
ورغم أنه لا يقدم القهوة، إلا أنه يقدم للجميع بابًا يفك الحصار عن شوقهم، ولو بشكل جزئي.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :