نوقش التدخل الروسي في سوريا باعتباره محاولة لإعادة اعتبار موسكو كقوة مهيمنة في الشرق الأوسط، وكسر عظم الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وذهب محللون للقول إن المعسكر الغربي نجح باستدراج “الدب” إلى المستنقع السوري.
لكن هذا التدخل ترجم على الأرض، على مدار عامين، بما هو أبعد من ذلك، بمصالح ومكاسب توازي تكاليف الحرب، واتضح أن بوتين مشى واثق الخطى بخطة شاملة، سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية، تثبت أقدام الروس على نافذة المتوسط الشرقية.
لم ترق انتفاضة الحرية وشق عصا الطاعة للمحور الشرقي، وزعيمه بوتين، لذا حوّل سوريا إلى حقل تجارب لأسلحته، مخلفًا وراءه آلاف الضحايا والركام والدماء.
التدخل الروسي لم يكن بالمجان، فرئيس النظام السوري، بشار الأسد، يدفع، يومًا بعد يوم، فاتورة تثبيته من جيب سوريا وثرواتها وشبابها.
روسيا تقلب موازين القوى لصالح الأسد
أجاز المجلس الاتحادي الروسي، في 30 أيلول 2015، لإدارة فلاديمير بوتين، استخدام القوة العسكرية الجوية في الخارج، بما فيها سوريا، لتبدأ المقاتلات الروسية منذ ذلك الوقت غارات جوية شملت معظم المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام.
وقال النظام السوري إن إرسال القوات الجوية الروسية إلى سوريا تم بطلب من الدولة السورية، عبر رسالة من الأسد إلى بوتين، تتضمن دعوة لإرسال قوات جوية روسية |
رسم التدخل الروسي خريطة جديدة لنفوذ النظام السوري وحلفائه، بعد انسحابات على مدار ثلاث سنوات لقوات الأسد أمام فصائل المعارضة في محافظات رئيسية.
الغطاء الجوي كان الورقة الرابحة في التدخل الروسي، وأسهم في قلب وضعية الأسد من التراجع إلى الهجوم، إلى جانب ترسانة عسكرية كبيرة تضمنت 162 نموذج سلاح اختبرتها وزارة الدفاع الروسية، وحولت سوريا إلى “حقل تجارب” عسكري.
تغير “مفصلي” في حلب
اقتصر وجود النظام السوري في محافظة حلب، قُبيل التدخل الروسي، على أحياء حلب الغربية، إلى جانب مواقع في الريف الشرقي والجنوبي للمحافظة، لا سيما منطقة السفيرة وصولًا إلى طريق خناصر، على اعتبارها نقطة الإمداد الوحيدة له نحو مركز المحافظة.
وكان للمعارضة السورية الثقل الأكبر في أرياف المحافظة، إلى جانب سيطرتها على الأحياء الشرقية في المدينة، وإحكام قبضتها على ثاني أهم المعابر البرية نحو تركيا، وهي معبر “باب السلامة” الحدودي، الذي يشكل مع “باب الهوى” شريان الحياة الرئيسي لمدن الشمال.
ويعتبر شهر تشرين الأول 2015، ساعة الصفر لعمليات قوات الأسد مدعومة بالروس في محافظة حلب، حيث شنت هجومها على المحورين الجنوبي والشرقي، مستعينة بجملة ظروف أعطتها دفعًا غير مسبوق، وأوصلتها إلى كويرس شرقًا، والأوتوستراد الدولي جنوبًا.
كما استطاعت من خلال الهجوم شمالًا فصل مناطق نفوذ المعارضة شمال المحافظة إلى قسمين، بعد سيطرتها على عدة بلدات وقرى “استراتيجية”، وأبرزها تل جبين ودوير الزيتون ورتيان وحردتنين وماير ومسقان وإحرص وغيرها، لتصل إلى بلدتي نبل والزهراء المواليتين.
الأشهر الأخيرة من عام 2016 كانت النقطة المفصلية في تاريخ حلب، إذ استطاعت قوات الأسد والميليشيات المساندة لها السيطرة بشكل كامل على الأحياء الشرقية من المدينة، بعد معارك شهدت كرًا وفرًا على مدار أشهر.
وكان للطائرات الروسية الدور الأكبر في التغطية النارية لتقدم الأسد، ونشرت روسيا بموازاتها فرقًا عسكرية روسية تقدم الاستشارات العسكرية لضباط النظام، إلى جانب تفكيك الألغام والأبنية المفخخة خلال التقدم في المنطقة.
بعد إخضاع المدينة بشكل كامل لسيطرة النظام، انتقلت قوات الأسد إلى الريف الشرقي من المدينة، وذلك بالتزامن مع توسع نفوذ “الجيش الحر” في ريف حلب الشمالي والشرقي بدعم تركي.
وسيطرت قوات الأسد على كامل الريف الشرقي لحلب من يد تنظيم “الدولة الإسلامية”، بمشاركة رئيسية من الطيران الحربي الروسي، ووصلت إلى الريف الجنوبي لمدينة الرقة والتي سيطرت عليه حاليًا بشكل كامل وصولًا إلى دير الزور.
المنطقة الوسطى خالية من “تنظيم الدولة“
كان لمحافظة حمص، التي سيطر فيها تنظيم “الدولة الإسلامية” على مساحات واسعة من الريف الشرقي، وأبرز نقاطه فيها كانت مدينة تدمر والحقول النفطية المحيطة بها، وصولًا إلى مطار “T4” العسكري، ومدينة القريتين.
الدعم الروسي في جبهة حمص كان الأكبر قياسًا بالمحافظات الأخرى، فأُقحمت موسكو طائرات “التمساح” المروحية في التغطية النارية، كما نشرت وحدات من الجنود الروس، إلى جانب فرق لإزالة الألغام التي زرعها التنظيم.
وبالنظر إلى خريطة السيطرة بعد التدخل الروسي نجد زحفًا كبيرًا لقوات الأسد في المنطقة الوسطى، حيث سيطرت على مدينة تدمر والمناطق المحيطة بها على الرغم من عمليات الكر والفر من جانب التنظيم. كما سيطرت على الريف الجنوبي لحمص وصولًا إلى البادية السورية، التي حققت فيها تقدمًا واسعًا، وتحاول فيها حاليًا السيطرة على كامل الحدود السورية مع الأردن.
ولا يختلف الوضع في ريف حمص الشرقي كثيرًا عن نظيره في حماة، حيث استعادت قوات الأسد والميليشيات المساندة لها السيطرة على كامل الريف الشرقي من حماة بعد أشهر من سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” عليه، ووصله مع مناطق سيطرته في محافظة دير الزور والرقة.
الصواريخ المجنحة “كاليبر” بعيدة المدى، القادمة من البارجات الروسية في البحر المتوسط، كان لها دور في تحقيق إصابات محققة في المنطقة وتراجع التنظيم.
وقالت وزارة الدفاع الروسية إن عدد الطلعات القتالية التي نفذها الطيران الروسي على ريف حماة بلغت، منذ بداية آب 2017 حتى نهاية أيلول، نحو 990 طلعة بـ 2518 ضربة.
اختبرت روسيا 162 سلاحًا على الأراضي السورية، منذ تدخلها إلى جانب النظام السوري، في 30 أيلول 2015 الماضي، وفق تقرير نشرته وسائل إعلام روسية. وجاء في التقرير الذي نشرته وكالة “سبوتنيك”، 1 تشرين الأول، أن “مهمة القوات المسلحة الروسية أصبحت في سوريا أكبر مهمة في الخارج، وبفضلها تمكنت دمشق في غضون عامين من تحرير 90% من الأراضي، واختبرت روسيا أحدث الأجهزة التي بلغت 162 نموذجًا”. وقال إنه “منذ عام 2015 تقوم قاذفات القنابل SU24-M والطائرة الهجومية SU25-M بمهامها، وفي عام 2016 تم نشر SU35-S في قاعدة حميميم المحدثة عن SU27”. وأضاف التقرير أنه في حزيران 2017 تم تقديم الطائرة SU27-M3 وأحدث صواريخ جو- جو متوسطة المدى لرئيس النظام السوري. |
السيطرة شرقًا روسية بامتياز
بالانتقال إلى المعارك التي توصف بـ “الأخيرة” في حسابات تنظيم “الدولة” في سوريا، تعتبر المواجهات التي تدور حاليًا في محافظة دير الزور روسية بامتياز.
وبعد أربع سنوات من سيطرة تنظيم “الدولة” على المحافظة، حققت قوات الأسد والميليشيات المساندة لها تقدمًا واسعًا على حساب التنظيم، واستعادت كافة المناطق التي خسرتها في السنوات الماضية، وأهمها اللواء 137 والمنطقة التي تصله مع المطار العسكري جنوبًا، إلى جانب بعض الأحياء في عمق المدينة بينها حويجة صكر.
ووصلت إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات، بفضل الدعم الروسي الذي ضم في هذه المرحلة آليات عسكرية متطورة، وجسورًا مائية مكنت عناصر الأسد والقوات الروسية من عبور النهر.
ولا يمكن تجاهل الدور الذي تقدمه الطائرات الروسية، وبحسب مصادر عنب بلدي من المنطقة تبلغ عدد الغارات الجوية التي ينفذها الطيران الروسي على المنطقة أكثر من 50 غارة جوية يوميًا.
وبذلك توسعت دائرة نفوذ الأسد في المنطقة الشرقية لسوريا، لتتصل مع مناطق سيطرة الأسد في ريفي الرقة وحلب، إلى جانب ريفي حمص وحماة.
تغير محدود في خريطة الجنوب
تقع مدينة الشيخ مسكين شمال مدينة درعا، على بعد 22 كيلومترًا منها، وتعتبر رابع أكبر مدن المحافظة، بعد درعا ونوى والصنمين، ويبلغ عدد سكانها نحو 50 ألف نسمة، قبيل دخول المعارك لها عام 2014.
تشكّل الشيخ مسكين عقدة مواصلات تربط ثلاث محافظات (دمشق، درعا، السويداء)، وهي نقطة وصل بين مدن نوى وإزرع وإبطع وداعل والصنمين، وتتوسط سهل حوران، ما جعلها هدفًا للجيش الحر الذي سيطر عليها في كانون الأول 2014، ليستعيدها النظام السوري بعد عام |
على خلاف المحافظات الأخرى، شهدت درعا تغيرًا محدودًا لصالح قوات الأسد بعد التدخل الروسي.
وفي 25 كانون الأول 2015، بدأت قوات الأسد حملة عسكرية كبيرة على مدينة الشيخ مسكين، في ريف درعا الشمالي، ونجحت في فرض السيطرة عليها، إثر معارك ومواجهات عنيفة، كان للطيران الحربي الروسي كلمة الفصل فيها.
عتمان، البوابة الشمالية لمدينة درعا، والخاضعة لـ “الجيش الحر” في سنوات الثورة السورية الأولى، كانت الهدف الثاني لقوات الأسد في درعا، ففرضت السيطرة الكاملة عليها في غضون ثلاثة أيام فقط، في معركة بدأت مطلع شباط 2016.
المعارضة تنحسر في الساحل
نجحت فصائل المعارضة في الحفاظ على مناطق تمركزها شمال اللاذقية في السنوات الأولى للثورة، وسيطرت على معظم بلدات وتلال جبلي الأكراد والتركمان، وشهدت التجمعات السكانية فيها استقرارًا نسبيًا خلال تلك الفترة، رغم محاولات الاقتحام المتكررة التي لم تنجح.
وفي تشرين الأول عام 2015، باشر النظام السوري وحلفاؤه هجومًا على مناطق المعارضة في المحافظة من عدة محاور، واستطاع في غضون أربعة أشهر تحقيق تقدم، هو الأول من نوعه، سيطر فيه على بلدات وتلال استراتيجية، أهمها سلمى وكنسبا ومارونيات في جبل الأكراد، وربيعة وغمام وزاهية في التركمان.
وبحسب خريطة السيطرة الميدانية، لم يتبقّ للمعارضة السورية سوى بضع قرى على الشريط الحدودي مع تركيا في جبل التركمان، كاليونسية وزيتونة وشحرورة وسللور.
في حين أصبح جبل الأكراد بمعظمه تحت سيطرة النظام السوري، بمحاذاة مع الريف الغربي لمحافظة إدلب.
روسيا من “الفيتو” إلى الهيمنة على الملف السياسي
سعت موسكو على مدار عامين من التدخل في سوريا، إلى إضعاف المعارضة بحجة “محاربة الإرهاب”، ونجحت في تحقيق جزء من مصالحها السياسية، في وقت تحاول تشكيل معارضة على مقاسها.
ومنذ عام 2011 أسهم “فيتو” فيتالي تشوركين، مندوب روسيا الدائم (السابق) في الأمم المتحدة، في تعطيل خمسة مشاريع لإدانة نظام الأسد، صوّت عليها مجلس الأمن، آخرها في تشرين الثاني 2016، بموازاة تعزيز فرص أن يكون للروس اليد الطولى في سوريا، والتغلغل ضمن مفاصل دوائر القرار السياسي لدى النظام وكيانه العسكري.
ليلحق فيتالي نائبه فلاديمير سافرونكوف، الذي استخدم “فيتو” مرة أخرى في شباط 2017، ضد عقوبات لشخصيات من النظام السوري، ثم في نيسان 2017 ضد مشروع قرار بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية عقب مجزرة خان شيخون.
وفرضت روسيا نفسها عرّابة الحل السياسي للقضية السورية، من خلال رعايتها محادثات أستانة إلى جانب تركيا وإيران، فضلًا عن لعبها دورًا على مستوى مفاوضات جنيف، من خلال منصات تصف نفسها بـ “المعارضة”.
عضو الهيئة السياسية في الائتلاف السوري المعارض، أحمد رمضان، قال لعنب بلدي إن التدخل الروسي كان واضحًا منذ البداية، أنه لم يكن بناء على الذرائع التي ساقتها للمجتمع الدولي، متمثلة بـ “محاربة الإرهاب”.
واعتبر أنها “تعمدت ألا تصطدم بأي حالة إرهابية في سوريا، بل إضعاف الطرف المعارض للنظام سواء المجتمع المدني أو الجيش الحر”، مشيرًا إلى أن موسكو “وضعت استراتيجية لتهجير أكبر كتلة سكانية معارضة من منطقة الساحل، وصولًا إلى الوسط ثم الشمال ودفعهم خارجها لتغدو اليوم منطقة نفوذ روسية”.
محاولات روسيا التي تزامنت مع مساعي دول أخرى لفرض حل في سوريا، كانت مختلفة عن أقرانها ولطالما توترت العلاقات مع الولايات المتحدة بخصوص الملف السوري.
ويرى رمضان أن الروس سعوا لفرض رؤيتهم لحل يقوم على إعادة تشكيل الدولة السورية وفق مصالحهم ونفوذهم، وإعادة تشكيل المجتمع بتحريك كتل ديموغرافية كاملة.
وصف بعض المعارضين التدخل الروسي بـ “الاحتلال”، وهذا ما تبناه عضو الائتلاف، موضحًا “وضع الروس في كل وزارة تابعة للنظام مستشارًا روسيًا، لا يصدر أي بيان أو موقف أو إجراء إلا بالعودة إليه وهذا ما تفعله سلطات الانتداب”.
هيمنت روسيا أيضًا على مفاصل الجيش، وربطت جميع القوى العسكرية وسلاح الجو بقاعدة حميميم، لتصبح وزارة دفاعها هي التي تقود كافة العمليات العسكرية، بتعاون واضح مع القوات الإيرانية.
كلام السياسي السوري دعمه ناشطون بقضية تأخر أو غياب الوزراء السوريين عن التصريح، حتى تبدأ موسكو برسم خياراتها السياسية، وكثيرًا ما تهكم ناشطون بأن موسكو أصبحت وزارة خارجية للنظام، كما حصل في الموقف من الإدارة الذاتية شمال شرقي سوريا، إذ ظهر وزير الخارجية، وليد المعلم، في 26 أيلول 2017، ليبدي استعدادًا للتفاوض والحوار حول إقامة نظام إدارة ذاتية للكرد في سوريا، في حال إنشائها في إطار حدود الدولة، وهو ما كان النظام يرفضه بشكل مطلق.
وهنا رأى رمضان أن هذا التحول رسالة من الروس لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي” (YPG)، مفادها أنه “يمكن الحوار دون النظر إلى موافقة النظام على ذلك”.
ورغم إظهار “حسن النوايا” والسعي لإيجاد حل سياسي، مازالت موسكو تفرض أجنداتها بشكل واضح على أكثر من صعيد، لكنها، بحسب المعارض، “لم تستطع حتى اليوم فرض ما تريده في أستانة وجنيف”، موضحًا أنها “ليست قادرة على تحويل سوريا إلى غروزني أو إحدى دول القوقاز التي احتلتها”.
ووفق رؤية رمضان فإن “المقاومة ضد روسيا ستتبلور مع مرور الوقت بشكل أكبر، وهنا سنجد رغبة منها للبحث عن حل بشكل أو بآخر”.
وفي استطلاع رأي عبر موقع عنب بلدي شارك فيه أكثر من 800 متابع، رأى 78% منهم أنه لا يمكن لروسيا لعب دور “محايد” في إيجاد حل سياسي، بينما أبدى 22% من المصوتين تأيدهم لدورها في المفاوضات.
الروس يقيّدون سوريا ويغرقونها بالديون
رسمت روسيا خريطة لقواعد عسكرية في سوريا تعيد حضورها كقوة مركزية في الشرق الأوسط، لكن هناك أجندة اقتصادية تخبئها موسكو وراء حضورها العسكري والسياسي، وأهمها الحصول على ميزات اقتصادية طويلة الأمد عبر توقيع اتفاقيات مع النظام السوري، كرد جميل لها في مساهمتها ببقاء النظام ورئيسه، بشار الأسد.
العلاقات الاقتصادية بين دمشق وموسكو ليست وليدة التدخل العسكري، وإنما يعود تاريخها إلى الاتحاد السوفيتي، وعهد الرئيس السابق حافظ الأسد، في تسعينيات القرن الماضي، كما عمل الأسد الابن على توطيد العلاقات التجارية والاقتصادية أكثر بين البلدين، فوقّع في عام 2005 قرابة 43 اتفاقية، شملت مجالات عدة أهمها الصناعة والتجارة والدفاع والصحة والطاقة والري.
كما أن تقديم النظام تنازلات وتوقيع اتفاقيات مع موسكو ليس جديدًا، بحسب محللين، إذ شطبت روسيا 73% من ديونها المستحقة على سوريا، أي 9.8 مليارات دولار من إجمالي الديون البالغة 13.4 مليار دولار، أثناء زيارة الأسد إلى موسكو في 2005، مقابل تحويل قاعدة طرطوس إلى قاعدة عسكرية ثابتة للسفن الروسية.
لكن وتيرة التنازلات ارتفعت بعد اندلاع الثورة عقب لجوء الأسد إلى بوتين للحفاظ على نظامه، لتبدأ موسكو تحصد ثمار موقفها بتوقيع “عقد عمريت” في 2013، وهو اتفاق ضخم مع شركة روسية، ويعتبر الأول من نوعه من أجل التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية.
ويشمل العقد عمليات تنقيب في مساحة 2190 كيلومترًا مربعًا ويمتد على مدى 25 عامًا، بكلفة تبلغ 100 مليون دولار، بتمويل من روسيا، وفي حال اكتشف النفط أو الغاز بكميات تجارية، ستسترد موسكو النفقات من الإنتاج، بحسب ما قاله المدير العام للمؤسسة العامة للنفط في حكومة النظام، علي عباس، لـ “فرانس برس”.
وبعد التدخل العسكري الروسي، بدأت الاتفاقيات بين الطرفين في مجالات مختلفة، منها اتفاقيتان بقيمة 600 و250 مليون يورو، عام 2016، من أجل إصلاح البنى التحتية التي دمرها “الصراع”، إضافة إلى بناء محطات كهربائية وصوامع للحبوب ليصبح “السوق السوري مفتوحًا أمام الشركات الروسية، لكي تأتي وتنضم وتلعب دورًا مهمًا في إعادة بناء سوريا والاستثمار فيها”، بحسب ما قاله رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في مقابلة مع وكالة “سبوتينك” الروسية، في نيسان الماضي.
كما نشرت شبكة “فونتانكا” الروسية الإلكترونية، في 29 حزيران الماضي، مذكّرة تعاون وقّعتها شركة “يوروبوليس” الروسية مع وزارة النفط والثروة المعدنية السورية مطلع العام الجاري، تنص على التزام الشركة بـ “تحرير مناطق تضم آبار نفط ومنشآت وحمايتها”، مقابل حصولها على ربع الإنتاج النفطي.
كما باشرت شركة روسية، يملكها الملياردير غينادي تيموشينكو، بتنفيذ أعمال صيانة منذ مطلع حزيران الجاري، لأكبر مناجم فوسفات في سوريا، التي تقع في منطقة خنيفيس قرب مدينة تدمر، بحسب تقرير نشره موقع “روسيا اليوم”، في 27 حزيران.
وأكد تقرير “روسيا اليوم” أن الأسد صادق على اتفاقية، في 23 نيسان الماضي، بين المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية في سوريا وشركة“STNG Logestic”، التابعة لمجموعة “ستروي ترانس غاز”، التي يملك تيموشينكو 31% منها، بهدف تنفيذ أعمال الصيانة اللازمة للمناجم وتقديم خدمات الحماية والإنتاج والنقل إلى مرفأ التصدير “سلعاتا” في لبنان.
كما تدخلت روسيا في الجانب الغذائي السوري، وأصبحت الدولة الأولى في تصدير مادة القمح الاستراتيجية، إذ أعلن وزير التجارة الداخلية في حكومة النظام السوري، عبد الله الغربي، إبرام اتفاق مع روسيا لشراء ثلاثة ملايين طن قمح من روسيا، في أيلول الماضي.
كما ستبني شركة “سوفوكريم” الروسية أربع مطاحن للحبوب في محافظة حمص، بكلفة 70 مليون يورو، وستغطي الحكومة السورية تكاليف البناء، بحسب ما ذكره مدير الشركة العامة للمطاحن، زياد بلة، في نيسان العام الماضي، الذي أشار أيضًا إلى تعاون مع الجانب الإيراني لبناء وتجهيز خمس مطاحن في عدة محافظات.
وفي حديث سابق لعنب بلدي مع الباحث الاقتصادي مناف قومان، أكد أن العقود والاتفاقيات بين روسيا وسوريا سيكون لها آثار مدمرة على الاقتصاد السوري على المدى البعيد، فهي ستكبّل الاقتصاد والحكومة السورية المستقبلية، وتمنعها من القيام بأي خطوات تنموية من شأنها الاستقلال بالقرار الوطني واستثمار ثروات سوريا الطبيعية.
وأكد قومان أن “أي عملية تنموية ستصطدم بحائط روسي وإيراني (وقعت طهران أيضًا مع النظام اتفاقيات عدة) يعترض العملية.
وشدد الباحث على خطورة العقود المتعلقة باستثمار موانئ نفطية وحق التنقيب عن النفط والغاز والفوسفات واستخراجه، لأنها ستكون مسلوبة لصالح روسيا وإيران، وستعمل الدولتان على “مص الثروات” دون مراعاة أي مصالح وطنية للسوريين، وقد تبيع الشركات الروسية النفط والغاز والفوسفات المستخرج من الأراضي السورية بأسعار عالية، وهذا ستترتب عليه آثار سلبية على الحكومة والمواطن من حيث التكاليف والأثمان الداخلية.
ثقافة روسية تضع بصمتها في “مجتمع محافظ”
إلى جانب الهيمنة العسكرية والاقتصادية التي حققتها روسيا على الأراضي السورية استطاعت، بعد عامين من التدخل، أن تبث ثقافتها المحلية داخل المجتمع السوري، بمباركة من النظام السوري الذي اعتبر نشر الثقافة الروسية أقل ما يمكن فعله لتقدير موسكو على جهودها.
“الروسية” إلى المدارس والجامعات
في وقت كانت فيه القوات الروسية تدك مدنًا وقرى خرجت عن سيطرة النظام، انشغلت وزراة التربية في حكومة الأسد بإعداد مناهج لتعليم اللغة الروسية في المدارس، وافتتاح فرع لغة روسية في كلية الآداب بجامعة دمشق.
وأعلن وزير التربية، هزوان الوز، نهاية العام الماضي، أن الوزارة وضعت خطة لتطوير اللغة الروسية في مدارسها، والتي بدأت تدريجيًا بإدراجها في المدارس منذ بداية العام الدراسي 2015-2016، في المرحلة الإعدادية.
كما افتتحت وزارة التعليم السورية، في تشرين الثاني 2014، قسمًا للغة الروسية وآدابها، في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة دمشق.
وفي حديثه عن إقبال الطلاب السوريين على اللغة الجديدة، قال الوز إن 59 مدرسة كانت تدرّس اللغة الروسية عام 2015، فيما وصل عددها عام 2016 إلى 105 مدارس.
وحمّلت الوزارة المعلمين السوريين، ممن يحملون إجازات جامعية أو شهادات عليا في الأدب الروسي من إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق أو من روسيا الاتحادية، مسؤولية تدريس الطلاب السوريين اللغة الجديدة.
كما وظفت المواطنات الروسيات اللواتي يحملن الجنسية السورية ويحملن الشهادات نفسها، ووصل عدد مدرسي اللغة الروسية عام 2016 إلى 60 مدرسًا، وفق إحصائيات رسمية.
ولم يقتصر التغلغل الثقافي على تعليم اللغة الروسية بل رافقها انتشار صور للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في المدارس والشوارع والاحتفالات الرسمية. ومن أبرز الصور على هذا التغلغل الثقافي ما شهده افتتاح مدرسة “الشهيد أحمد أبو نبوت” بمحافظة درعا، في أيلول الماضي، حين حمل التلاميذ صورًا لبوتين والعلم الروسي إلى جانب صور الأسد.
ومنذ عامين بدأت تنافس صور بوتين تلك التي تحمل صورة الأسد، على سيارات الموالين ومن يعرفون بـ “الشبيحة”.
مطاعم الساحل مهيأة للزبائن الروس
أفسحت قاعدة “حميميم” الجوية التي أنشأتها روسيا في مدينة اللاذقية الساحلية المجال أمام جنودها للانتشار بين المدنيين في الساحل، فكانوا محط اهتمام المطاعم والمحلات التجارية التي أصبحت تراعي الزبون الروسي وتعمل على استقطابه.
مقهى ومطعم “موسكو” الذي افتتح في مدينة اللاذقية، في كانون الأول 2015، كان خير مثال على استثمار أصحاب المطاعم للجنود الروس الموجودين في القاعدة الجوية.
وقال طارق شابو صاحب المطعم لقناة “روسيا اليوم”، عقب الافتتاح، إنه يأمل باستقطاب الروس الذين وصلوا حديثًا إلى سوريا، مشيرًا إلى أنه بدأ بتعلم اللغة الروسية لتوفير قائمة الطعام بلغتهم في المستقبل القريب.
كما خصصت بعض المطاعم السورية في المناطق الساحلية لوائح بأسماء المأكولات والمشروبات والأسعار باللغة الروسية، لتسهيل التعامل مع الزبون الجديد.
وغالبًا ما يتعامل السوريون المؤيدون للأسد مع الروس على أنهم أصدقاء أوفياء دعموا الدولة طوال 45 عامًا، وجاؤوا أخيرًا لإنقاذها، وبدأ أولئك المواطنون بتعلم لغة الروس كنوع من الرفاهية و”رد الدَّين” للحليف الروسي.
اندماج عكسي.. روس يشربون “المتّة”
في وقت يكابد فيه السوريون من أجل الاندماج في المجتمعات التي لجؤوا إليها بفعل الآلة العسكرية لمختلف أطراف النزاع، وأبرزها الروسي، بدأت ملامح اندماج عكسي تلوح في المجتمع السوري حين حاول مقاتلون روس في سوريا التخلص من أعباء الحرب بالعيش حياة طبيعية بين المدنيين.
بعضهم شرب “المتّة” وآخرون أكلوا “الشاورما”، إلا أن آخر ما تم تداوله، في 4 تشرين الأول، هو مقطع فيديو لجنود روس يرقصون أمام قلعة حلب، إلى جانب مواطنين، على أنغام “الليموني”، وهي أغنية من التراث السوري.
كما نشرت قناة “العالم” الإيرانية، عام 2015، صورًا لجندي روسي يشرب “متّة”، وهو المشروب الشعبي الشهير في المناطق الساحلية السورية.
وانتشر عبر “يوتيوب”، أيضًا، فيديو لجندي روسي أثناء شربه المتة على شرف “بو علي بوتين” وبشار الأسد، وفق ما كان جنود سوريون يلقنونه.
وعلى ذلك، بنى بعض الجنود الروس علاقات صداقة مع مواطنين سوريين، ومع جنود من قوات الأسد خلال مدة قصيرة تلت التدخل الروسي في سوريا، طالما أن الهدف مشترك وهو “القضاء على الإرهاب”.
روسيا التي لا تكف عن القتل
رغم محاولات تغليب الدور السياسي على العسكري، لم تتمكن روسيا من إثبات حسن نيتها في سوريا خلال العام الماضي، فاستمرت في دعم النظام السوري عسكريًا وكانت صواريخها سببًا مباشًر في قتل الآلاف، كما أدت سياسات التهجير تحت مسميات (المصالحة الوطنية) إلى تشريد آلاف آخرين عن منازلهم.
تقارير حقوقية عدة حاولت ترجمة ما تفعله اليد الروسية في سوريا، ورصدت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان منذ بدء التدخل الروسي رسميًا قبل عامين، وحتى بعد إعلان انتهاء الحملة الروسية على سوريا العام الماضي.
وذلك ما جعل منظمات حقوق الإنسان تدفع بالدول الأعضاء في الأمم المتحدة لإبعاد روسيا عن” مجلس حقوق الإنسان“، وهذا ما تم فعلًا إذ فقدت روسيا، في 28 تشرين الأول 2016، مقعدها في المجلس الأممي بعد فشلها في حشد ما يكفي من أصوات الداعمين.
عداد القتلى مازال يعمل
أكدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ضمن تقريرها الصادر 2 تشرين الأول 2017 أن روسيا قتلت 5233 مدنيًا بينهم 1417 طفلًا و886 منذ بدء تدخلها العسكري في سوريا.
ويمكن أن يكون هذا العدد أكبر نظرًا لكونه من الضربات المشكوك في الجهة التي نفذتها أو الضربات المشتركة التي قد لا تكون مشمولة في التقرير.
العدد الإجمالي لضحايا الحملة الروسية موزع على مجازر عدة في مناطق سورية، مثل المجزرة في إدلب بتاريخ 4 نيسان 2017، التي راح ضحيتها 32 مدنيًا بينهم 19 طفلًا، وتزامنت مع تلك التي ارتكبتها قوات الأسد في خان شيخون مستخدمة الأسلحة الكيماوية.
كما تعرض المدنيون في مناطق سيطرة تنظيم” الدولة الإسلامية” للغارات الروسية، في إطار مشاركة روسيا بـ “مكافحة الإرهاب“، فوثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالاسم مقتل 62 مدنيًا تم بينهم 30 طفلاً و20 سيدة، بتاريخ 24 أب 2016، على يد القوات الروسية في حي الطعس بمدينة القورية في ريف دير الزور الشرقي.
وخلال حملتها استخدمت روسيا الذخائر العنقودية بشكل كبير، ووفق تقرير لـ “هيومان رايتس ووتش” نُشر في 30 آب 2017، فإن روسيا على صلة بجزء من الهجمات الـ 238 التي تم استخدام الذخائر العنقودية فيها بين آب 2016، وتموز 2017.
المرافق الصحية ”هدف مفضّل“
بحسب تقرير” الشبكة السورية لحقوق الإنسان” حول حصيلة التدخل الروسي في سوريا خلال عامين، فإن القوات الروسية استهدفت 119 منشأة طبية وقتلت 47 شخصًا من الكوادر الطبية، بينهم ثماني نساء منذ أيلول 2015.
ومع محاولات النظام السوري السيطرة على مدينة حلب نهاية العام الماضي نشطت الطائرات الروسية في استهداف المرافق الحيوية في المدينة، وعلى رأسها المشافي، وسجلت “الجمعية الطبية السورية الأمريكية”، التي تدعم العديد من المستشفيات في حلب 16 حادثة طال فيها القصف المستشفيات بين أيلول وتشرين الأول 2016.
تلك الهجمات دفعت تحالفًا عالميًا من 223 منظمة غير حكومية إلى مطالبة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بعقد دورة استثنائية طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة للمطالبة بوقف جميع الهجمات غير القانونية على المدنيين في حلب وأماكن أخرى في سوريا.
سياسات تهجير تنذر بتغيير ديموغرافي
قرع تهجير سكان الوعر الحمصي، بضمانة روسية، ناقوس الخطر بعد تهجير أهالي عدد من البلدات والقرى السورية منذ نهاية العام الماضي وخلال الأشهر الأولى من العام الحالي، واعتبرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن أهالي حي الوعر انضموا إلى ما يزيد عن 12 مليون سوري مشردين قسريًا، وبحسب تقرير الشبكة بعنوان” لا خيار لهم“، في 20 نيسان 2017، فإن روسيا وإيران إلى جانب النظام وراء 85% من عمليات التشريد القسري في سوريا.
وكانت روسيا طرفًا مهمًا في اتفاق إجلاء الأحياء الشرقية لمدينة حلب من السكان بشكل آمن مقابل سيطرة النظام على كامل المدينة.
لكن روسيا لم تقدم أي جهود مقابل عمليات التهجير، واتهمتها منظمات عدة بالتنصل من دورها في مساعدة اللاجئين السوريين، وتقول” هيومان رايتس ووتش“، في 14 أيلول 2016، إن إسهام روسيا في الوفاء باحتياجات اللاجئين المشردين جراء النزاع السوري يكاد لا يذكر.
منظمة “أوكسفام” الدولية قدرت أن نصيب روسيا العادل من إعادة توطين اللاجئين بناء على حجم اقتصادها يجعلها ملزمة بإعادة توطين أكثر من 33 ألف لاجئ سوري، لكنها لم تتعهد بإعادة توطين أي منهم.
خمس نقاط تفسر التدخل الروسي قانونيًا
في تقرير على رأس عام من التدخل، حدّد “المركز السوري للمساءلة والمحاسبة” خمس مخالفات وسلوكيات قانونية ارتكبتها القوات الروسية في سوريا، ولخصتها عنب بلدي بما يلي:
- شجعت الهجمات على المدنيين وزادت وتيرتها
فبدلًا من حثّ الحكومة السورية على مزيد من الالتزام، فاقمت روسيا من شدة الانتهاكات. وبُعَيد دخول روسيا في النزاع على الفور تقريبًا في تشرين الأول 2015، على سبيل المثال، استهدفت الغارات الجوية التي شنّتها ستة مرافق طبية، ومنذ ذلك الحين قالت منظمات حقوق الإنسان بأن الأزمة الصحية قد غدت أسوأ بسبب التدمير المستمر للمرافق الصحية.
وعلاوة على ذلك، لطالما دعمت روسيا التكتيك الذي تتبعه الحكومة السورية في التهجير القسري المنهجي، مثل الدعوة إلى إنشاء ممرات إنسانية للمدنيين للضغط على المدنيين في شرق حلب لمغادرة المنطقة أو يكونوا عرضة للهجمات.
- خلطت روسيا بين الهجمات على المدنيين ومكافحة الإرهاب
على غرار الحكومة السورية، فقد برّرت روسيا العديد من الهجمات بذريعة مكافحة الإرهاب. وباستخدام تعريف الحكومة السورية الفضفاض للإرهاب الذي يخلط بين المدنيين والإرهابيين، واصلت روسيا شنّ غارات جوية عشوائية داخل سوريا. واستخدمت أيضًا هذا التفسير لتبرير دعمها للأسد في الأمم المتحدة واستمرار تزويد سوريا بالأسلحة. وانعكست هذه النوايا أكثر في اتفاق وقف إطلاق النار بوساطة أمريكيةـ روسية في شهر شباط، والذي فشل في تعريف “الجماعات الإرهابية” أو وضع خرائط تحدّد المناطق التي تتواجد فيها جماعات إرهابية.
وفي ظل الجولة الثانية من هذا الإطار أفادت تقارير بقيام طائرات روسية بقصف إحدى قوافل الأمم المتحدة التي كانت في طريقها لإيصال المساعدات إلى ما يقرب من 78 ألف مدني في الجزء الشرقي من حلب. وقُتل 20 شخصًا على الأقل في الهجوم، الذي إذا تبيّن أنه متعمّد، فإنه سيعتبر جريمة حرب.
- جعلت عملية السلام في غاية التعقيد
في سوريا، شارك المئات من الجماعات المسلحة في الأعمال العدائية، وكثير منها يسيطر على أراضي، ويمارس نفوذًا عسكريًا و/أو سياسيًا. ومما يزيد الطين بلة، هناك العديد من القوى الخارجية أيضًا المشاركة بشكل مباشر أو غير مباشر في دعم فصائل وأطراف مختلفة. وكان تشكيل الهيئة العُليا للمفاوضات محاولة لتوحيد المعارضة وجلب الداعمين الدوليين والفصائل المتقاتلة الى طاولة المفاوضات. وبدلًا من قبول هذا الاندماج، قامت روسيا بتعقيد العملية للغاية من خلال دعم جماعات بديلة، ولا يُنظر إلى أيّ منها على أنها ممثلة، ويُعتبر كثير منها موالية لروسيا.
وقد أدّى هذا إلى إشعال فتيل منافسات داخلية ضمن المعارضة، ممّا سمح لروسيا أن تضرب المجموعات المختلفة ببعضها البعض حول مسألة إذا ومتى وكيف يتعيّن على الأسد التنحّي عن السلطة، مدعية أنه لا توجد مجموعة واحدة تمثل مصالح جميع السوريين.
- قوّضت إطار الانتقال السياسي
بعد مضيّ ستة أسابيع من تدخلها العسكري في سوريا، أصدرت روسيا وثيقة بعنوان “مقاربة لتسوية الأزمة السورية” التي حدّدت أهداف روسيا واستراتيجياتها لحل النزاع.
وبعد ذلك، في ربيع 2016، بدأت روسيا بالعمل مع الولايات المتحدة لصياغة دستور جديد لسوريا. ولم يكن هذا العمل سابق لأوانه فحسب، بل وشكّل خطرًا على إمكانية حدوث عملية إصلاح مؤسسي، بدءًا من الإصلاح الدستوري لمعالجة إرث سوريا من الاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان.
- خفضت من احتمال وجود آلية عدالة دولية لسوريا
خفّضت مشاركة روسيا في الأعمال العسكرية بشكل كبير من إمكانية إنشاء أي آلية عدالة دولية لسوريا. وبصفتها عضوًا في مجلس الامن الدولي وتتمتع بحق النقض (الفيتو)، فقد وفّرت روسيا بالفعل الحماية لحليفتها عن طريق عرقلة قرار يقضي بإحالة الوضع السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية. وعلى الرغم من معارضة روسيا، كان لا يزال بمقدور المجتمع الدولي الضغط على روسيا سياسيًا للسماح بإحالة الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية أو ربما إنشاء محكمة دولية مختلطة. ولكن الآن بعد تورّط روسيا عسكريًا ومع وجود مزاعم حول مسؤوليتها عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فمن المستبعد جدًا أن توافق روسيا على أي شكل من أشكال المساءلة الجنائية الدولية التي قد تؤدّي إلى اتّهام قياداتها أو أفرادها العسكريين.
الخيط الذي تحيك به روسيا شبه جزيرة القرم بطرطوس
كرّم النظام السوري قتلى الجيش الروسي الذين ساعدوه في السيطرة على المدن السورية الثائرة، من خلال نصب تذكاري في حلب، دشّنه الحلفاء في الذكرى السنوية الثانية لتدخّل موسكو في حرب الأسد ضد معارضيه.
لكن هل ستكتفي روسيا بهذه “اللفتة اللطيفة” لنظام الأسد، كمكافئة لتدخلها الدامي؟
في تجربة شبيهة بعض الشيء، قبيل التدخل الروسي الرسمي في سوريا، تعاظم غضب الدب الروسي جراء الأحداث السياسية الجارية في أوكرانيا، واعتبرها عبثًا في “جرّة العسل” خاصته.
وسرعان ما تدخل الجيش الروسي في البلد الجار له، واعتبرت موسكو أن الاحتجاجات العشبية في العاصمة الأوكرانية كييف، والتي أطاحت بالرئيس الأوكراني، فيكتور يانكوفيتش، انقلابًا على نظام الحكم.
المبرر الروسي لـ “شرعية” التدخل العسكري في أوكرانيا، كان مناشدة القائم بأعمال رئيس الحكومة بالقرم روسيا للتدخل بعد سيطرة مسلحين على مبنى البرلمان، وهذا المبرر شبيه جدًا بدعوة حكومة النظام السوري لموسكو للمشاركة بالحرب ضد المعارضة بوصفهم “إرهابيين مسلحين”.
كذلك ادعت روسيا أن “نازيين جدد” اجتاحوا شرق أوكرانيا وطردوا منها المتحدثين باللغة الروسية، وهو ادعاء مواز لخطر “الإرهاب” على الأقليات السورية، الذي دفع روسيا للتدخل لحمايتهم.
إلا أنّ الضغط العسكري والسياسي الذي تعرضت له روسيا دفعها في حالات الذروة للاعتراف بأسباب تدخلها، على لسان نواب برلمان مثل فياكسلاف فيكونوف، وخبراء ومحللين سياسيين مثل فاتشسلاف ماتوزورف، وبوريس دولوغوف.
ورأت هذه الشخصيات أن ما حدث في أوكرانيا خطة أمريكية لاستنزاف الاقتصاد الروسي، عبر جر موسكو للتدخل عسكريًا، ما سيؤدي إلى فرض المزيد من العقوبات الدولية عليها، كما سيتيح ذلك المجال لواشنطن للتهرب من عهودها بعدم نشر بنية تحتية عسكرية في الدول المنضمة جديدًا إلى حلف “الناتو”.
لذلك اعتبرت موسكو أن ثورة أوكرانيا “مؤامرة” أمريكية هدفها ضم كييف إلى حلف الناتو، وهو ما تعتبره روسيا خطًا أحمر.
أما اهتمام روسيا الكبير بشبه جزيرة القرم فيعود إلى خشيتها من فقدان ميناء سباستوبول، الذي يُعتبر مدخلًا للأسطول البحري الروسي إلى البحر المتوسط، وهنا يأتي دور ميناء طرطوس لاستقبال هذا الأسطول، لا سيما بعد توقيع معاهدة بين دمشق وموسكو نصّت على منح الروس صلاحيات واسعة في القاعدة العسكرية بميناء طرطوس تمتد لـ 49 عامًا.
ويرى بعض المراقبين أن الأطماع الروسية في ميناء ثابت على البحر المتوسط تعود لأيام روسيا القيصرية، وهو ما يفسر سبب استماتة موسكو في دفاعها عن النظام السوري، كما تساعدنا المقاربات السابقة في فهم سبب دخول روسيا في جبهتين بنفس الوقت في سوريا وأوكرانيا.
انتهى الأمر بشبه جزيرة القرم إلى الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا بعد إجراء استفتاء بحضور الجيش الروسي، فما المكافأة التي ينتظرها بوتين من الأسد بعد النصب التذكاري الذي بناه الأخير لجيش الأول في حلب؟
أعد هذا الملف من قبل عنب بلدي بالتعاون مع المركز السوري للعدالة والمساءلة