ترحيل الأنقاض

  • 2017/10/08
  • 2:27 ص

إبراهيم العلوش

بدأ بعض السوريين يعودن إلى أنقاض بيوتهم، وبدأت رحلة الغربة الجديدة، حيث سيجدون أنفسهم غرباء في مدنهم، وفي قراهم المدمرة، عاد البعض إلى بيته المدمر، محني الرأس أمام النظام الذي يصوّر نفسه اليوم مقاتلًا ضد الإرهاب، ويبث الأفلام عن الجيش العقائدي البطل، الذي قام بكل هذا الدمار، بحقد، وبوحشية، لم يفعلها التتار، ولا المغول، الذين لم يسعفهم الحظ بامتلاك البراميل المتفجرة، ولا الصواريخ بعيدة وقريبة المدى.

عاد أبناء الأرياف في الرقة إلى قراهم التي تم نهب الكثير من بيوتها، على أيدي قوات الاحتلال الجديدة التي يديرها مقاتلو جبال قنديل وبحماية أمريكية، والتي ترفع أيضًا راية محاربة الإرهاب، مترافقة إما مع تعفيش البيوت، وإذلال الناس بتركهم في البراري هم وأطفالهم، مثل وحوش البرية، ريثما ينتهي التعفيش الأخير للقرى الفقيرة والبائسة.

سيكون السوري العائد إرهابيًا بنظر النظام كما صرح أحد كبار الشبيحة عصام زهر الدين الذي توعد العائدين بالانتقام، وسيظل السوري إرهابيًا بنظر المحتلين الجدد، مهما تنوعت راياتهم وزعاماتهم من الخامنئي وبوتين انتهاء بعبد الله أوجلان وبحلفائه الأمريكيين.

السوري العائد يبحث بين الأنقاض عن أشيائه الصغيرة التي لم تنهبها الكتائب الإسلامية المتطرفة، والتي لم ترض بها كغنائم، أو كسلفة للنعيم الذي ينتظر مجاهديها في الجنة، فالمجاهدون، ورجال الجيش العقائدي البطل، اتفقوا على القبول بنهب البرادات، والغسالات، وأجهزة الكمبيوتر، والمراوح، والمكيفات، والأبواب، والنوافذ، وأسلاك الكهرباء، وما صلح من الأثاث، واتفقوا على ترك الجدران لطائرات النظام، والطائرات الروسية والأمريكية لتدميرها، وبدورها الطائرات تركت لصاحب البيت، “البيتون” المهشم، وبقايا الحديد، والأحجار، والبحص، علّه يستفيد منها عندما يعود الى بيته، بعد رحلات النزوح واللجوء التي تكفلت بتحويل حياته إلى أنقاض متطايرة تشبه صورة بيته المنهوب والمهدّم!

اتفقت كل الأطراف على عدم خلع حجرة المرحاض من البيت، إلا إذا شاءت هي أن تتطاير مع أشلاء المنزل المقصوف، فحجرة المرحاض كانت الناجية الأخيرة في معظم البيوت المقصوفة أو المنهوبة في سوريا، فهي عسيرة على الخلع وإعادة البيع، وبعيدة عن متناول الانفجارات مهما كانت شديدة.

واتفقت الأطراف أيضًا، على تكليف المواطن العائد الى أنقاض بيته بترحيل هذه الأنقاض، والتي صار منظرها غير حضاري، ويضر بسمعة جيشنا البطل، وبضيوفنا الإيرانيين، والروس، الذين كانوا يبحثون عن الإرهابيين بالطائرات وبالصواريخ العابرة للمحيطات، وبما تيسر من أنواع الأسلحة الأخرى.

ستعيد التركسات والسيارات البحص والتراب إلى مناجمها التي جاءت منها في البراري، قبل أن تتحول تلك المواد الى أبنية تحتوي أهلها برفق، وقبل أن تسجل حياة من بنوها بحلوها، وبمرّها، وتزين مساحات عيشهم، بألوان الدهان، والبلاط، وبزخرفة الشبابيك، والتي تحولت جميعها اليوم الى أنقاض تستوجب الترحيل والخلاص منها.

والسوري العائد اليوم أوغدًا إلى منزله، عليه أن يرّحل أنقاض عواطفه، وأفكاره، ومخططاته، ومفاهيمه عن الحياة، عليه أن يتخلص من أحلام توحيد الأمة العربية من المحيط الى الخليج، وعن أحلام توحيد الأمة الإسلامية، وعن الجري خلف كل مرتزق من الأحاديث ومن الآيات الكريمة، وأن يتخلص من زوبعة الأمة السورية وتجلياتها النازية، وأن ينقل أحلامه القديمة مع البحص والرمل والتراب، إلى خارج عقله الذي أضاع قرنًا كاملًا في توهمها، وفي بناء الأحلام عليها، ولم تنعكس عليه إلا بجيش حقود، وبساسة عاجزين، وبقادة جشعين، وبمثقفين ساهموا بتأجيج الحقد والدمار لدى كل الأطراف، ولن ينتفع ببقائهم إلا في استمرار هذا الخراب.

قبل سنوات تلقى رجل أعمال سوري نصيحة استثمارية من خبير كبير ومجرب، تتلخص بالاستثمار في ترحيل الأنقاض، فهي الثروة الأولى السابقة لكل المكاسب التي تأتي من انتهاء الحرب، وكلما استمرت الحرب فإن الأنقاض تتزايد، ومجال استثمارها يكبر ويصبح مجزيًا. اشترِ المزيد من التركسات والبلدوزرات والكميونات.. فترحيل الأنقاض هو المكسب الأول الذي يدخلك في مجال الإعمار عندما يبدأ بعد هذه الحروب الطويلة.

وأظن بأن الاستثمار الأول في مجال الثقافة، والسياسة، هو ترحيل هذه الطبقات من الساسة، والقادة العسكريين، والإداريين، والمثقفين، الذين تلوثوا بدماء هذه المجزرة، ولا يغرينا رجل دين طويل اللحية أو قصيرها، ولا حامل دكتوراه، ولا صاحب أوسمة ونجوم، ولا صاحب كتب وصحف، فأنقاض هذه الطبقات المتورطة بالخراب يجب أن ترّحل، حتى قبل أن تدور محركات التركسات، والكميونات، والشاحنات التي ترّحل الأتربة والحجارة، وإلا فإنهم سيعيدون المأساة من جديد كما أعادتها اليوم نفس هذه الطبقات بعد مجازر الثمانينيات، وبشكل أكبر وأكثر إيلامًا وتدميرًا مما فعلته في تلك الأيام.

ترحيل عائلة الأسد، وأنقاضها البشرية من الشبيحة، وأبطال التعذيب، وقادة البراميل، وأصحاب النياشين الصامتين عن القتل والدمار، ومثقفي التطبيل والتزمير، وترحيل مشايخ النفاق والتخدير، ومزاودي الثورة المرتبطين بغير الشعب السوري.. هؤلاء جميعًا سموم تلوث أرض سوريا، وسماءها، وتصنّع الإرهاب فيها، وتديم مشاعر البغض والكراهية بين أبنائها، ولا سلام في سوريا أبدًا بوجودهم طلقاء ومن دون محاسبة.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي