عذرًا، لم يعد يبق محلات

  • 2014/06/15
  • 2:25 ص

عنب بلدي – خلود حلمي

استيقظت صباح السبت، رتبت القليل من أشيائها وألبست طفليها ثيابهما وأسرعت في الخروج من المنزل مع زوجها الذاهب إلى عمله كي يوصلها إلى مزرعة جدها، حيث تقيم عائلة والدتها النازحة منذ عام ونصف بعد أن تركوا منازلهم في داريا على عجالة ووجدوا في تلك المزرعة ملجأً يأويهم. «لم يكن ليخطر ببالي ذات صباح حين خرجت من بيتي في عين البيضة على عجل أنني لن أعود إليه أبدًا» هكذا لخصت حنين الحكاية، وهي أم لطفلين في الثامنة والعشرين من عمرها والتي لم تتمكن من العودة إلى منزل النزوح في «عين البيضة» لتلملم بقايا أشيائها التي عملت على تجميعها منذ عام ونصف.

لم تكن حنين الوحيدة التي لم تتمكن من العودة إلى ما كان يسمى يومًا «منزلًا»، فأم هشام، سيدة في أواخر الأربعين من عمرها، غادرت منزلها فجرًا مع عائلتها المكونة بمعظمها من أطفال صغار وهربوا بملابس النوم خوفًا من القصف الذي انهال كالمطر على المدينة التي وجدوا فيها ملجًأ يأويهم بعد نزوحهم للمرة الثالثة إليه، وإن كان حظهم جميلًا يوم نزوحهم من داريا إذ أخذوا معهم أوراقهم الثبوتية، لم يتمكنوا من أخذها في رحلة الهروب الثانية من وابل الصواريخ ليكتشفوا بعد يومين أن منزلهم قد سوّي بالأرض وراحت كل أوراقهم أدراج الرياح.

عائلة أم هشام التي خسرت كل ما تملك من بقايا أشياء تقيها حر الصيف وبرد الشتاء، قررت اللجوء إلى لبنان، فلم يعد من مكان في هذا الوطن يرحب بهم، فمن نزوح إلى نزوح وفي كل مرة يخسرون كل ما يملكون ويمضون أشهرًا وسنينًا يجمعون اليسير مما يسترهم من طعام وكساء، يذهب بلمح البصر في كل اجتياح أو قصف لمكان نزوحهم، تقول أم هشام «لم يعد لنا مكان في بلدنا، لم نعد نملك أدنى مقومات الحياة، في كل مرة ننزح فيها نجمع القليل من الثياب «بطلوع الروح» ثم نتركها وراءنا ونهرب بأرواحنا، لم نعد نحتمل البقاء أكثر فالبلد «ما عادت النا».

قرر أبو عمر، 35 عامًا، العودة إلى عين البيضة للبحث عن بقايا أشيائهم التي تكدست تحت الأنقاض، فحالتهم المادية لا تسمح له بتحمل المزيد من المصاريف لشراء ثياب جديدة لعائلته التي تركت منزلها بسبب القصف على القرية، وحين وصل إلى مكان منزله الذي كان يستأجره، لم يجد إلا أكوامًا من أنقاض متكدسة. حاول انتزاع ما تمكن من أشيائهم وخرج بها سعيدًا فقد خفف عن كاهليه وطأة مصاريف لا طاقة له بها، إلا أنه فوجئ بالجنود على الحواجز يمنعونه من إخراج أي شيء بحجة أن البلدة أصبحت «آمنة» والتعليمات تقضي بعودة كل سكانها إليها، وعندما أخبره بأن منزلهم تهدم بالكامل جاء رد الجندي «معلش انصبوا شادر ودبروا حالكون ما في طلعة».

أبو أحمد، رجل في الستينيات من عمره، أعادت إليه أصوات القصف ذكريات النزوح الأولى من داريا، نفس الرعب والخوف، والهروب بالأرواح فقط، لا شيء أشد إيلامًا من فقد الأمان، تجربة الرحيل للمرة السادسة على التوالي خلال عامين تقريبًا أرهقت سنوات عمره الستين، وهو من تشتتت عائلته المكونة من ستة أولاد في أنحاء الأرض، بين معتقل وملاحق ونازح ويعيد، أمضى أسبوعين تقريبًا حتى تمكن من مغادرة مكانه والنزول إلى دمشق لإحضار ابنته وطفليها بعد أن علقت هناك ولم تتمكن من العودة بسبب الاشتباكات وإغلاق الطريق وباتت عائلة واحدة موزعة في أطراف دمشق وريفها في ظل انقطاع شبكة الاتصالات ولا أحد يعلم بحال الآخر، والكل ينتظر عل اللقاء يكون قريبًا.

وفي رحلة البحث عن مكان للاستقرار «الافتراضي»، تمضي أيام النازحين من مناطق الاشتباكات الساخنة بعقوبات أشد وطأة، يكفي أنهم من «داريا» حتى لا يجدوا مكانًا يأويهم ويكفي أنهم نازحون ليمضوا أيامهم دون استقرار متنقلين من مكان إلى آخر، وحال لسان الوطن يقول: «نعتذر، لم يعد هناك محلات».

مقالات متعلقة

  1. الصدمة النفسية عند الأطفال السوريين
  2. «ودع واستقبل» مسيرة مفارقة الأهل والأوطان 
  3. داريا ودعت واحدًا من أبرز رجالاتها.. الدكتور عزت شربجي «في ذمة الله»
  4. سوريون غادروا بيوتهم و"احتلها" آخرون.. من يحمي أملاكهم؟

مجتمع

المزيد من مجتمع