فتش عن الأمريكيين في إدلب
محمد رشدي شربجي
منذ نهاية الحرب الباردة استفردت الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم في سابقة لم تحدث لدولة في التاريخ، الدولة التي هندست النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية بمشاركة شكلية من الحلفاء المنتصرين تجاوز أمنها الوطني حدودها المباشرة ليتغلغل في أصقاع العالم الأربع. ومنذ ذلك الحين لا توجد دولة في العالم لا ترسم سياستها الخارجية، وفي كثير من الأحيان الداخلية أيضًا، إلا بعد دراسة توجهات السياسة الخارجية الأمريكية. منذ ذلك الحين وحتى إشعار آخر بات كل شيء في عالم السياسة يتم بأمر أمريكا.
يعتبر إقليم الشرق الأوسط من أكثر الأقاليم الهشة عالميًا، فلم تأخذ مكونات هذه الدول فرصتها كفاية ولم يؤخذ رأيها أساسًا بنظام الحكم الذي تريده، وفُرضت على شعوب المنطقة حدود باتت مع الزمن مقدسات يلعنها الجميع ويحافظون عليها، ثم وُضع في وسط الإقليم كيان بالضد مع التاريخ والجغرافيا اسمه إسرائيل.
وهكذا لا يمكن فهم سياق الحروب التي لم تتوقف سواء حروب العرب مع غيرهم، أو حروب العرب مع بعضهم إلا باعتبارها جزئيًا صدى لتوترات تحدث في المستوى الأعلى بين الدول العظمى. ألم تكن إسرائيل ترحيلًا لمشكلة أوروبية إلى العرب المنكوبين بمصائبهم؟ وهل يمكن فهم حرب صدام حسين على الكويت بدون النظر إلى انهيار الاتحاد السوفيتي؟ وهل يمكن تخيل المأساة السورية بدون رؤية محاولات روسيا للعودة للساحة الدولية مع إعادة تموضع أمريكي في الشرق الأوسط والعالم؟
قد يبدو عصيًا على الفهم ما تفعله روسيا في سوريا، فهي من جهة حريصة على استمرار مفاوضات أستانة، ويعلن مندوبها على الفور عن التوصل لاتفاق بين الدول الضامنة الثلاث لمنطقة تخفيف توتر رابعة في إدلب، وتنتشر في مواقع التواصل تفاصيل لخرائط مقسمة بثلاثة ألوان، ثم نراها من جهة أخرى في اليوم التالي تشن حملة من القصف المكثف على مقرات الفصائل المشاركة في أستانة.
كلام النهار يمحوه الليل، يتفق بوتين مع أردوغان على هدنة تبدأ منتصف الليل، يستغلها الروس ليتابعوا حرقهم للمدينة.
كيف يمكن فهم كل هذه العنجهية؟ كيف يمكن فهم الصمت التركي عن هذا الإذلال؟ فتش عن الأمريكيين.
لم يرد الأمريكيون منذ البداية إسقاط الأسد لأسباب كثيرة، منها رغبتهم في إعادة التموضع في المنطقة، وضغطوا لذلك على “حلفائهم”، وهي كلمة دبلوماسية تعني أتباعهم، لكيلا يزودوا المعارضة بأسلحة قادرة على قلب ميزان المعركة مع الأسد، وبعد نزع أنياب الأسد في صفقة الكيماوي مع روسيا بات إسقاط الأسد على الضد من المصلحة الأمريكية التي لم تعد ترى مع ظهور تنظيم الدولة فرصة أعظم لتحقيق أهدافها في المنطقة.
لقد كان الموقف الأمريكي الملتبس من الأسد، والتركيز على محاربة تنظيم الدولة عبر أكراد سوريا بوصلة أصدقاء وأعداء الثورة السورية على السواء، فقد ساعد هذا روسيا وإيران على الإقدام، في حين اكتفى حلفاء الثورة بالتردد في انتظار موقف أمريكي أوضح حتى تخلوا جميعًا عن هدف إسقاط النظام، واليوم وبعد سبع سنوات عجاف، تركيا نفسها عاجزة عن منع تشكل دولة كردية مع منفذ بحري على المتوسط على حدودها الجنوبية.
لم يعد دعم الثورة يصب في صالح تركيا، خاصة بعد أن سيطرت القاعدة على ما تبقى من مناطق المعارضة في محافظة إدلب، وفي ظروف كهذه هي اليوم بين خيارين تقريبًا، إما أن تقبل بدعم أمريكي للأكراد للسيطرة على إدلب، أو أن تقبل بدعم روسي للنظام للسيطرة على إدلب، ولا شك أن تركيا أمام خيارات كهذه ستختار الثانية، وهكذا ستكون القضية الكردية، بفضل أمريكا، مفتاحًا لمصالحة إقليمية تعيدنا جميعًا (كردًا وعربًا) إلى أحضان جميع الأوطان القائمة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :