عنب بلدي – حسن مطلق
على مدار أكثر من 15 عامًا، عمل المربي والفارس جمال المصري الفتاحي على كتابة صفحات تتحدث عن الخيل العربي الأصيل، وهو ينتظر فرصة مناسبة لطباعة الكتاب، الذي ربما يكون دليلًا تعريفيًا لمئات المربين في سوريا، وطريقة لإعادة الخيول إلى دائرة الاهتمام، بعد سنوات حرب، جعلت هويتها وأنسابها مهددة بالضياع.
ورث الفتاحي مزرعة “الأربيخ” للخيول، شرقي تفتناز في إدلب، عن أجداده، لينشئ فيها نادي “الأندلس” للفروسية، وأنهى كتابه العام الماضي بمئة صفحة، معتمدًا على عشرات المراجع وخبرته التي اكتسبها على مدار سنوات.
توقف العمل في نادي “الأندلس” بسبب القصف عام 2012، بعدما شارك صاحبه في مسابقات محلية أبرزها مهرجان “المدن المنسية” في إدلب عام 1998، ومعرض دمشق الدولي عام 2011، كما حصل على كأس المركز الأول في بطولة الجمهورية في الإمارات.
والفتاحي عضو منتخب سوريا للفروسية سابقًا، عشق الخيل منذ صغره وشارك في بطولات قفز الحواجز والقدرة والتحمل، لكنه يعاني اليوم في محاولة انتشال الخيول من “واقع مرير”.
يحاول أشهر مربي الخيل في سوريا الحفاظ على هذه الثروة الوطنية، وسط معوقات وخسارة مئات الرؤوس الأصيلة، ومشاكل تسجيل ما بقي منها في المنظمة العالمية للجواد العربي “واهو” (WAHO).
أبرز أصول الخيل وأنسابها
يعود أصل الخيل العربي إلى آلاف السنين، وكانت بدايته من الجزيرة العربية، ثم انتشر في بقية دول العالم، عن طريق الحروب والتجارة وغيرها من الطرق.
ويتميز الخيل الأصيل عن غيره بالبنية الجسمية، إذ يوصف بأنه من ذوات الدم الحار، على عكس الأجنبي من ذوات الدم البارد.
ووفق بعض مربي الخيل في سوريا، فإن التتار والمغول جلبوا خيلًا تستخدم للفلاحة تعرف باسم “الكديش”، أو القطيش باعتبارها مقطوعة النسب وغير عربية، تنتشر معظمها اليوم في المناطق الجبلية.
قسم العرب والنسّابة، وأبرزهم ابن الكلبي، الخيل إلى أنساب (أرسان) أساسية، لخصتها عنب بلدي من مصادر متقاطعة بخمسة: الكحيلات، الصقلاويات، العبيات، الحمدانيات، الشويمات.
وينحدر عن الكحيلات التي تعتبر الأكثر انتشارًا في سوريا، عشرات الفصائل منها: نواقية، خذلية، كروش، مزنة، الكبيشات، الهدب، المعنقيات، أم عرقوب وغيرها، وتمتاز بالقوة والعضلات المفتولة وقصر الأرجل وعرض الرأس والرقبة.
الصقلاويات تتفرع أيضًا إلى أرسان مختلفة، أبرزها: جدرانية، العبد، وبيري، نديري، وهي مصقولة وخفيفة العظام، ذات صدر عميق ورقبة طويلة وتتميز برفع وطول رأسها عن باقي الأرسان.
أما خيول العبيات فهي مشدودة الجسم وسريعة ومن أكثرها انتشارًا: شراكية، سحيلية، عفاري، بن زيدان، بن صغير، بن علوان، وغيرها، بينما تنتشر “شويمة سباح” كأهم رسن لنسب الشويمات.
وتتميز الحمدانيات بتوازن جسمها كمزيح من الصقلاوية والكحيلة، وبرقبة متوسطة الطول والرأس العريض، وأبرز ما يتفرع عنها: ابن غراب، السمري، العفري، والدهمة.
خيل الشمال السوري.. عبء على أصحابها
تعتبر تربية الخيول في الشمال السوري امتدادًا للمنطقة الشرقية، وهي أكبر رقعة جغرافية تضم خيولًا أصيلة في الوقت الراهن، تتبعها المنطقتان الجنوبية في درعا والقنيطرة، والوسطى متمثلة بمحافظتي حماة وحمص، إضافة إلى العاصمة دمشق وريفها.
وبينما لم يتأثر واقع التربية كثيرًا في مناطق سيطرة النظام، حمل القصف وتغير خرائط السيطرة على الأرض جملة من المعوقات التي وقفت أمام مربي المناطق الخارجة عن سيطرته.
يقول صاحب مزرعة “الأربيخ” جمال المصري الفتاحي إن المربين في المنطقة مازالوا يحتفظون بمئات رؤوس الخيل، مؤكدًا تضرر واقع التربية، فـ “الخيل حاليًا خسارة مادية، وليست كما كانت قبل سنوات تشارك في سباقات وتحصّل الجوائز، عدا عن سوق البيع الذي كان لا يتوقف”.
ويوضح الفتاحي الأضرار المادية التي يتعرض لها هذا القطاع، “كنا نحصل على النخالة والشعير من مؤسسة الأعلاف شهريًا، بعد أن تأتي لجنة للكشف عن أعداد الخيل وتحديد الكميات، ولكن السعر اليوم مرتفع جدًا (…) الأدوية غير متوفرة، عدا عن الدواء التركي الذي ينتشر بكثرة، إلا أنه لا يؤدي مفعوله”.
بعض مربي الخيل حصلوا عليها كـ “غنائم” أو اشتروها دون أوراق، ما يزيد من فرص ضياع أنسابها، من وجهة نظر المربي، مؤكدًا أنهم “لا يعرفون قيمة الخيل، كما أن قلّة يذبحونها ويقددون لحمها للأكل”.
يملك منيب السطوف، أحد مربي الخيل في معرة النعمان بريف إدلب، 25 رأس خيل عربي أصيل مسجل في “واهو”، ولديه بعض المهور المولودة حديثًا تحتاج إلى أختام تؤكد نسبها.
مربط “السطوف” واحد من حوالي 20 مربطًا تنتشر في معرة النعمان وريفها، وتشرف على الخيول بقدر استطاعة أصحابها، فالمصروف اليومي للرأس الواحد يصل إلى ثلاثة دولارات في الحد الأدنى.
ويتغنى المربي ممدوح العيسى برأسي خيل أصيلين بقيا لديه، من أصل سبعة اضطر لبيع خمسة منها بعد تهجيره من قريته تل الحطابات في ريف حلب الجنوبي، إلى قرية البويدر في المنطقة ذاتها.
ويتحدث ممدوح عن أشهر مرابط الخيل في المنطقة، التي ضمت في وقت سابق مزارع ضخمة أبرزها: الجابري واليكن والعنبرجي وشبارك، وجميعها في حلب وإدلب.
لكن الواقع اليوم ليس “ورديًا”، خاصة فيما يتعلق بتوفر الأدوية، كـ “شربات الدود”، وعلى رأسها “نورماكتين”، كما تندر لقاحات المهور الصغيرة واللقاحات ضد أمراض كالكزاز، إضافة إلى غياب بعض أدوية الالتهابات والمغص، المرض الأخطر على الخيول والذي قد يؤدي إلى الموت في وقت قصير.
تتعدد أنواع المغص لدى الخيول بين النفاخي والتشنجي ومغص الكلى، الناتج عن حصيات، ويعتبر المغص الدودي أخطرها، وينتج عن تجمع الدود داخل أمعاء الخيل.
جمعية الفجروسط حالة الإهمال التي يشهدها قطاع الخيل، سعى مربون إلى تسليط الضوء على واقع الخيل وإحياء هذه الثروة، بتأسيس جمعية “الفجر”، قبل عام ونصف. ورعت الجمعية سباقي خيل، في ظاهرة “فريدة” من نوعها في الشمال السوري، حمل الأول اسم “مهرجان البادية” في ريف حلب الجنوبي، في أيار 2017، وشارك فيه أكثر من 35 جوادًا أصيلًا وهجينًا، تحت شعار “الفروسية تجمعنا”. كما نظمت “مهرجان إدلب الخضراء” في بلدة معصران، مطلع آب 2017، وافتتحت ناديًا للتدريب على ركوب الخيل، في بلدة بشقاتين بريف حلب الغربي، تموز من العام نفسه. وترى إدارتها أن ما حققته خلال الفترة الماضية، أوصل رسالة إلى العالم والمسؤولين المختصين، وإن لم تلقَ تجاوبًا حتى الآن. وبحسب رئيس الجمعية، محمد صبحي الأفندي، فإن الإدارة تواصلت مع الحكومة السورية المؤقتة للاستفادة من مخلفات طحن النخالة لدى مؤسسة الحبوب والمطاحن، إلا أنها رفضت تزويد المربين بها. ويفسر مدير العلاقات الخارجية في الجمعية، يحيى نعناع، عدم التجاوب بأن المؤسسة ملتزمة بعقود ولا يمكنها منح أي كمية للجميعة. |
حين يُكفَّر مالك خيول للاستحواذ على ثروته
تضم المنطقة الشرقية من دير الزور النسبة الأكبر من مرابط الخيول، ويذكر الأحمد أبرز المرابط المعروفة في المنطقة: الدندل (يضم حوالي 40 رأس خيل)، الهفل، نواقيات النقشبندي أو الشيخ ويس، معنقيات طربوش والخضير القريبتين من البوكمال، ومعنقيات النجرس في العشارة، إضافة إلى مربط عبد الله السدة، الذي كفّره التنظيم، وسلب حوالي 50 رأس خيل والمهور المتوالدة، حسب قول المربي. |
لم ينقل المربي دحام علاو الأحمد، الملقب بـ “أبو علي”، من سكان مدينة دير الزور، خيوله معه إلى مدينة الباب في ريف حلب الشرقي، التي وصلها في آب 2017، هربًا من المعارك التي تعيشها المنطقة.
ويقول دحام لعنب بلدي إنه ترك اثنين من خيوله الستة في مدينة العشارة، شرقي دير الزور، لدى صديقه، لكنه اضطر لبيع أربعة لتأمين مصروف خروجه إلى ريف حلب.
يتعامل دحام الأحمد منذ أكثر من 20 عامًا مع الخيول، ويؤكد أن المنطقة ماتزال غنية بهذه الثروة رغم أن واقعها كان أفضل بكثير قبل دخول تنظيم “الدولة الإسلامية”، موضحًا “نزح كثيرون حينها، منهم من باع خيوله، بينما خسرها آخرون لصعوبة النقل”.
مازالت عشرات الخيول موجودة في المنطقة، رغم أن تنظيم “الدولة” يستولي على بعضها بحجج مختلفة، فكثيرون يرفضون الخروج ويحافظون على الخيل أكثر من أطفالهم.
قبل الثورة كان المربي يخزن العلف والأدوية على مدار الفصل، وليس بشكل يومي، إلا أن الوضع الحالي يتمثل بتأمين العلف من المساحات الزراعية الواسعة.
وتضم محافظة الرقة مرابط خيل ولكن بدرجة أقل من دير الزور، بينما مازالت محافظة الحسكة تضم مئات الخيول الأصيلة، التي تعود بمجملها إلى قبيلة “شمّر”.
وتملك القبيلة العدد الأكبر من الخيول الأصيلة في المنطقة، وتدير قوات “الصناديد” العاملة مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) الفعاليات المتعلقة بها، كان آخرها في 9 أيلول 2017، تحت مهرجان في مدينة اليعربية (تل كوجر)، بمناسبة تأسيس حزب “المحافظين” الديمقراطي، بزعامة مانع الحميدي (أبو دهام) الجربا.
ومازالت وزارة زراعة النظام تصرف المسلتزمات الأساسية، لأصحاب الخيول في مناطق سيطرتها، وفق تأكيدات حصلت عليها عنب بلدي من مربين في المنطقة، لكنهم يعانون من مشكلة تصوير الطبقي المحوري للخيول، فلا إمكانية لذلك إلا في كلية الطب البيطري في مدينة حماة.
الجنوب فقير والغوطة ثِقل دمشق
يضم الجنوب السوري أعدادًا قليلة من الخيول، بينما تعتبر الغوطة الشرقية وجهة المربين في ريف دمشق، مقابل مرابط قليلة تنتشر داخل العاصمة.
ورث إياد النامري (52 عامًا)، من مدينة درعا، تربية الخيل عن والده، ويقول لعنب بلدي إنه اقتنى أربعة خيول أصيلة مسجلة في وزارة زراعة النظام، رباها في مدينة جاسم، إلا أنه اضطر لبيعها خلال الثورة.
ويقدر المربي أعداد الخيول التي ضمتها درعا قبل الثورة بحوالي 150 خيلًا أصيلًا، إلا أنه رجح انخفاض العدد إلى أقل من 75 في الوقت الحالي، في ظل بيعها أو التخلي عنها لغياب الأماكن الآمنة لتربيتها وازدياد التكلفة، فضلًا عن قلة الأطباء المتخصصين.
يؤكد إياد أنه سيشتري الخيل حينما تتحسن أوضاع المنطقة، مشيرًا إلى أنه باع ما لديه من خيول لصديقه في الغوطة الشرقية. هناك حيث يعيش اليوم نحو 300 رأس أصيل مسجل في “واهو”، إلى جانب 150 غير مسجلين، بحسب ما نقله المربي محمود التوت من مدينة دوما.
قبل الثورة كانت جميع الخيول الأصيلة مسجلة، إلا أن توالد قسم منها خلال الحصار منع من تسجيلها، كما أثر الحصار وإغلاق منافذ المنطقة سلبًا على تأمين العلف.
تملك عائلة الناصيف وهي من أشهر مالكي الخيل في حمص، قرابة 14 خيلًا أصيلًا في دمشق، وعشرة في لبنان، إضافة إلى أربعة في دبي وستة في الكويت، وفق عبد العزيز، الذي يقدّر عدد الخيول في ريف حمص حاليًا بحوالي 70 رأسًا. |
حماة الأقل تضررًا في المنطقة الوسطى
تضررت الخيول في محافظة حمص وخاصة في ريفها الشمالي، بينما ماتزال مدينة حماة تحتضن عشرات المرابط الخاصة، إلى جانب خيول أصيلة يقتنيها أصحابها في نادي الفروسية داخل المدينة.
ورغم أن بكور صالح البكور، صاحب اسطبلات “الصالح” في منطقة غرب المشتل بمدينة حماة، نقل مربطه إلى البارة في ريف إدلب بشكل تدريجي منذ عام 2012، إلا أن عائلته تشارك حتى اليوم في سباقات تجري داخل مناطق النظام، كما يقول لعنب بلدي.
وتشتهر عوائل مختلفة في حماة باقتناء وتربية الخيول الأصيلة منذ القدم، وأبرزها: البكور والكردي والخاني وطيفور والأقرع وشيخ الغنامة وغيرهم.
يملك بكور 30 رأس خيل عربي أصيل مسجل في “واهو”، تتنوع بين الحمدانيات والصقلاويات والنواقيات والشويمات، ويوضح أن معظم من في المدينة نقلوا أغلب الخيول من مرابطها إلى نادي الفروسية، الذي يديره مكتب الخيول في مديرية الزراعة، مشيرًا إلى أن المربي يدفع ثمانية آلاف ليرة سورية شهريًا لقاء “البوكس” الواحد، مقدرًا أعداد الخيول في النادي بحوالي مئة رأس.
إلى الجنوب من حماة مازال صاحب مزرعة “البوادي” لتربية الخيول في ريف حمص الشمالي، عبد العزيز الناصيف، يملك 30 رأسًا، من أصل 170 خسر معظمها بقصف النظام للمنطقة قبل سنوات.
ورث عبد العزيز تربية الخيول عن أجداده، ويدير اليوم المزرعة في منطقة الفرحانية، شمالي حمص، ويقول لعنب بلدي إنه باع خيولًا لدمشق، بعد دفع رشاوى لحواجز النظام في تيرمعلة والدار الكبيرة، مقابل مرور السيارات التي تحملها.
ووفق المربي فإن الخيول تضررت من نقص الأدوية والأعلاف، وصعوبة علاج بعض الأمراض، كما يشير إلى أن نقص المساحات بسبب القصف صعّب من مهمة تدريبها، بعدما شاركت سابقًا ببطولات في دمشق وحماة وتدمر، وأخرى في الخليج وفرنسا.
ويرى مصطفى الأشقر، من سكان ريف حمص الشمالي، أن الخيول “أصبحت منذ سنوات عبئًا على أصحابها، في ظل غلاء الأعلاف والدواء، ما دعا مربين إلى بيعها بأسعار زهيدة”.
ويقول الأشقر لعنب بلدي إنه خسر رأسي خيل في القصف، وبقيت لديه فرس أصيلة واحدة حاليًا.
ووجه دعوات للاهتمام بالخيل من قبل الجمعيات والمنظمات المعنية، مطالبًا بالحفاظ على ثروة الخيل التي ورثها المئات من أبناء سوريا عن أجدادهم، والحفاظ عليها من الضياع.
خسائر الخيول السورية
أحصت عنب بلدي أبرز الخسائر التي طالت ثروة الخيل، في مناطق مختلفة من سوريا، بين السلب على يد تنظيم “الدولة الإسلامية”، وحوادث النفوق التي سببها القصف.
في عام 2011، صدر في دمشق كتاب الأنساب العاشر للخيول العربية الأصيلة في سوريا، وقال مدير مكتب الخيول في وزارة الزراعة، المهندس محمد الوادي، إن هذا الكتاب يضم 442 جوادًا، وبذلك وصل عدد الخيول الأصيلة المسجلة في كتب الأنساب في سوريا إلى 5033 منها 2932 من الإناث و2101 من الذكور.
وأضاف الوادي أن عدد الولادات يصل إلى 600 ولادة سنويًا لمختلف أرسان الخيول العربية الخمسة الرئيسية.
لكن رئيس جمعية “الفجر”، محمد الأفندي، قدّر نسبة الخسارة في الشمال السوري بحوالي 40%.
ويقول الأفندي إن عشرات الخيول نفقت بسبب الجروح الناتجة عن الشظايا، وغياب المأوى في ظل تهديم عشرات المرابط، إضافة إلى أن بعضها مات من الجوع.
بينما قدّر مربون في الغوطة نسبة الخسائر بسبب قصف المزارع أو الجوع بحوالي 20%.
أبرز الخسائر طالت مزارع “الجابري” في حلب، ويقول صاحبها إحسان الجابري، الذي يقطن في غازي عنتاب التركية، إن تنظيم “الدولة” استحوذ على المزرعة، التي كانت تضم أكثر من 100 رأس خيل أصيلة بين تربية ومواليد حديثة.
تقع المزرعة على طريق الرقة قرب المحطة الحرارية، وداخل قرية الطيبة في ريف حلب الشرقي، وتمتد على مساحة 30 هكتارًا (300 ألف متر مربع).
وشهدت حمص وريفها خسارات “كبيرة”، إذ قتلت قوات الأسد 17 رأس خيل أصيلة في مربط “النجيب”، خلال اقتحام دير بعلبة مطلع نيسان 2012، والذي يعود تأسيسه إلى 400 عام، تناوب أفراد العائلة على إدارته.
ويقول عبد السلام النجيب، عضو تيار “الغد السوري”، وابن صاحب المربط عباس النجيب، لعنب بلدي، إن قوات الأسد استهدفت الخيول بقذيفة “RPG”، مشيرًا إلى أن “جميعها من النسب الذي يملكه آل النجيب فقط، وهو الكحيلة الخرسة”.
لم ينجُ من الحادثة سوى مهرة هربت نحو الجنوب، وفق رواية أشخاص من بني خالد في حمص للنجيب، الذي يشير إلى أن العائلة أرسلت قبل 50 عامًا فرسًا إلى عكار اللبنانية، مؤكدًا أنه “في حال لم تعد موجودة في لبنان، ولم نعثر على المهرة التي فرت، سيكون النسب قد انقطع نهائيًا”.
وخسرت عائلة الناصيف في حمص أكثر من 50 خيلًا، إثر قصف بالراجمة على مزرعة “البوادي” شمالي حمص مطلع الثورة، وفق مالكها عبد العزيز الناصيف.
وإلى جانب هذه الحوادث خسر مربون خيولًا لأنها شردت وتوجهت نحو مناطق يحظر الوصول إليها عسكريًا.
بيع وتهريب ثروة الخيول السورية
تنشط عمليات بيع الخيول داخليًا في المناطق “المحررة”، كما يستمر البيع عن طريق لجنة النظام، ومازال مكتب الخيول في مديرية زراعة دمشق “يفرغ” الخيل من اسم صاحبه لصالح المشتري، بعد دفع 25 ألف ليرة سورية لإتمام العملية.
وقدر مدير مكتب الخيول العربية الأصيلة في وزارة الزراعة في حكومة النظام السوري، المهندس محمد غياث الشايب، قيمة التصدير إلى دول الخليج في أعوام 2006، 2007، 2008، بحدود 40 إلى 50 مليون ليرة.
إلا أن المسؤول أكد لصحيفة “الوطن” المحلية تراجع التصدير والتبادل بعد 2011، بسبب العقوبات المفروضة على سوريا.
كانت التسعيرة قبل الثورة بالليرة السورية، وكان سعر الخيل يصل إلى أربعة ملايين ليرة وأكثر تبعًا للأصالة (الدولار كان يقابل 50 ليرة)، بينما تتراوح الأسعار اليوم بين عشرة آلاف و15 ألف دولار أمريكي، وخاصة الفرس الولّادة.
ويقول صاحب مزرعة “الجابري” في ريف حلب الشرقي، التي استولى عليها تنظيم “الدولة الإسلامية”، إنه باع أكثر من فرس أصيل إلى الخليج عام 2002 بسعر 100 ألف دولار (أي خمسة ملايين ليرة سورية حين كان الدولار يساوي 50 ليرة).
وتقيم جودة الخيل أو الفرس تبعًا للرسن والأصل أولًا، ثم يُنظر إلى خشونة جسمها وجمال وجهها وتناسقه، إضافة إلى صدرها العريض والخشن والرقبة الطويلة والعريضة.
ويقول مربون إن خيولًا نادرة موجودة في المناطق “المحررة” قد يصل سعرها إلى 60 ألف دولار، ويرتفع السعر في حال وجود أوراق ثبوتية للخيل.
بيع الخيول قبل الثورة كان يجري عن طريق وزارة الزراعة، عبر أوراق ثبوتية نظامية، ويؤكد عبد العزيز الناصيف، مالك أشهر مزارع ريف حمص، أن البيع في منطقته اليوم يجري من خلال تجار خارج الريف المحاصر.
ويقدر أصحاب الخبرة أسعار الخيول الوطنية بأنها نصف سعر المسجلة في “واهو” أو أقل، وهذا ما يؤكده المربي دحام الأحمد من المنطقة الشرقية.
أسعار الخيول في الغوطة انخفضت إلى النصف اليوم في ظل الحصار وتتم أغلب عمليات البيع لتجنب مصروف الخيل السنوي والاعتماد على ثمنه في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية.
إلى جانب البيع برزت عمليات تهريب للخيول خارج سوريا، لكن الأمر ليس جديدًا، إذ تتحكم “مافيات” من التجار بعمليات تهريب الخيل من أي مكان في سوريا، إلى تركيا والعراق ولبنان، منذ فترة طويلة.
ورغم أن عمليات التهريب نشطت في السنوات الأولى من المناطق “المحررة”، إلا أنها تراجعت وأصبحت نادرة منذ أكثر من عام ونصف، فقد كانت تنشط من ريف حلب نحو ولاية أورفة التركية، إلى جانب تهريب عن طريق سلقين وقرى أخرى حدودية بين إدلب وتركيا.
يقول المربي جمال المصري الفتاحي من ريف إدلب إن التهريب كان ممنوعًا سابقًا، فالنظام كان مسؤولًا عن إدخالها وإخراجها إلى الخليح ولبنان ومناطق أخرى.
ويتحدث عن حادثة تعرض لها “طلبني الأمن العسكري بسبب نقص خيلين ماتا لدي، بحجة أن النقص يجب أن يعلم به مكتب الخيل مباشرة لتسجيلها في السجلات، فهذا اقتصاد الوطن ومسؤولية كبيرة”.
وحتى اليوم تجري عمليات تهريب داخلي نحو مناطق النظام، وعن الحركة بين سوريا والأردن، يقول مربون من درعا إنها نادرة جدًا فأسعارها في سوريا قريبة من أسعارها هناك، وهي أساسًا قليلة في المنطقة.
التسجيل في “واهو” عن طريق مؤسسات النظام فقط
كانت اللجنة تسحب دمًا من المهر المراد تسجيله، ولكن في الوقت الراهن يرسل مالكه عن طريقها شعرة إلى منظمة “واهو”، التي تحللها وفي حال تطابقت مع الأب والأم المسجلين أصلًا في المنظمة، يسجل المهر تلقائيًا كأصيل ويختم من قبل اللجنة ويحصل صاحبه على أوراق التسجيل. |
يشكل تسجيل الخيول الأصيلة في منظمة “واهو”، العقبة الأكبر أمام مربيها في المناطق “المحررة”، التي تضم فعليًا القسم الأكبر من هذه الثروة، بينما تسيّر لجان في مكاتب مديريات الزراعة التابعة للنظام أمور التسجيل في المناطق الخاضعة لسيطرته.
وتقدر جمعية “الفجر” أعداد الخيول الأصيلة المسجلة في “واهو” بحوالي 40%، بينما يحمل 60% حجة وطنية تحت مسمى “الخيل الوطني السوري”، وهي عربية أصيلة ولكن غير مسجلة في المنظمة العالمية للخيول العربية.
كثير من الخيول الوطنية ضاعت أنسابها لأنها لم تسجل، وربما تضيع أنساب البقية، ومع أن جمعية “الفجر” أحصت ما يقارب من 200 رأس ولدوا خلال السنوات السبع الماضية دون تسجيل، إلا أنها ماتزال تتواصل مع المنظمة الدولية لإيجاد صيغة لتسجيلها.
وبحسب مدير العلاقات في المنظمة، يحيى نعناع، “فالمنظمة لديها فكرة أن الخيول العربية في المناطق خارج سيطرة النظام تنتشر جميعها في المساحات التي يسيطر عليها تنظيم (الدولة الإسلامية)”، لافتًا إلى أن الجمعية “أرسلت صورًا وفيديوهات لزياراتها الميدانية، وهنا أبدت المنظمة استغرابها من توثيق خيول أصيلة في منطقتنا، إلا أنها لم تتجاوب حتى اليوم”.
مكتب “واهو” في دمشق مازال يتعامل مع تسجيل الخيول، ويعتبر نعناع أن المربي لا يضمن إرسال خيوله لتسجيلها وختمها عازيًا ذلك إلى “أن مؤسسات النظام ومؤسساته غير حيادية حتى في هذه الأمور”.
وبعيدًا عن محاولات الجمعية، يقول مربون إنهم تواصلوا بشكل فردي مع اللجنة في دمشق، وقدموا ضمانات لحمايتها لدى دخولها إلى المناطق “المحررة” لتسجيل الخيول الأصيلة، كما اتفق المربي جمال المصري الفتاحي مع اللجنة في دمشق، إلا أن الفصائل رفضت دخولها، كما يؤكد لعنب بلدي.
ولم تتوقف عمليات تسجيل الخيول في الشمال السوري بشكل كلي، إلا أنها اقتصرت على قلة ممن لديهم علاقات وثيقة مع آخرين في مدينة حماة، ويقول المربي بكور صالح بكور، المنحدر من المدينة، إنه يرسل حتى اليوم خيولًا لتسجيلها في حماة.
ويتحدث بكور عن دفع 325 ألف ليرة سورية، تشمل “ترفيقًا” للحواجز بين إدلب وحماة، وإيجار السيارة التي تحمل الخيل، حتى تصل إلى حماة.
ويشير المربي إلى أن اللجنة تسجّل الخيل مقابل 20 ألف ليرة سورية حاليًا، بعد أن كانت سبعة آلاف قبل الثورة، مؤكدًا أن خيوله مسجلة باسم والده في حماة وليست باسمه.
مكتب الخيل التابع لوزارة الزراعة في حكومة النظام أعلن طباعة كتاب الأنساب رقم 15 وإرساله إلى “واهو” في آذار 2017، وضم في صفحاته 500 جواد، على أن يطبع الكتاب الـ 16 ويضم 500 أخرى، وهي عملية دورية لتسهيل حفظ الأنساب وسرعة إرسالها إلى الجهات المعنية بها.
ويقدر المكتب عدد الخيول الأصيلة السورية المسجلة في المنظمة حاليًا، بحوالي سبعة آلاف خيل أصيل، كما يقول إن لديه قاعدة بيانات يعمل على تحديثها باستمرار من خلال متابعة مواليد الخيول الجديدة.
|
من السلف.. جذور رمزية الخيل
أقوى دلالة على أهمية الحصان في الثقافة العربية، يبرز من عدد الأسماء التي منحها الأسلاف لهذا الحيوان، إذ وصلت حتى الصدر الأول من الإسلام إلى 99 اسمًا.
الإنسان العربي الذي عاش حياة مغرقة في البداوة، اضطر معها إلى التنقل الدائم، وجد في الحصان أكثر من أداة ومركبة يجتاز بها الصحراء، ففي هذه المسافات الخطرة أصبح صديقًا للإنسان العربي الوحيد والشريد.
وكلمة صديق ليست تعبيرًا مجازيًا، فالعرب ومن خلال آدابهم أو حتى نصوصهم الدينية بعد الإسلام، شددوا على أهمية التواصل مع الحصان، والبوح له وتفهم مشاعره.
العربي الذي برع باختصار مسافات السفر بدبج الشعر، أفرد قسمًا هائلًا من القصائد الموجهة للحصان عبر قرون طويلة، ليشاركه هذا المخلوق السفر والصداقة، وديوان الشعر الذي اشتهر به بين الأمم.
ويذكر أحمد يحيى علي، دكتور الأدب والنقد في جامعة عين شمس، أن الجذر اللغوي للخيل يأتي من مزج “الخيال” بكلمة “خيّال”، ليأخذ الحصان بهذا الاسم بعدًا روحيًا وسحريًا أيضًا.
وفي ظل وضع شبه الجزيرة العربية الغارقة في الصراعات القبلية، كان الحصان قاسمًا ثقافيًا مشتركًا شديد الأهمية بين قبائل متناحرة ومتصارعة، ومن هنا برزت أهميته بالنسبة “للأمة” بشكل جمعي.
وكانت سلالات الخيل العربي الأصيل تُنسب إلى قبائلها العربية، وتمنح أسماء تميزها، حتى باتت جزءًا أصيلًا من هذا التكوين القبلي كأي إنسان عاقل.
واستمر هذا المعنى بالسفر من جيل إلى جيل حتى وصلنا، ضاربًا جذوره في قرون خلت من الإخاء والصداقة مع أسلافنا، حتى بات الخيل رمزًا للأصالة والصداقة والوفاء.