تناقش الدول الأربع التي يمتد عليها الوجود الكردي (تركيا وإيران والعراق وسورية) قضية انفصال شمال العراق («كردستان») من منظور تحريمي، أو مما تعتبره أمنها القومي، مؤكدة أن ذلك غير قابل للمناقشة والحوار. وهي- أي الدول الأربع- كانت أمضت عقوداً تتجاهل وجود «المسألة الكردية»، اعتقاداً منها بأن التجاهل قد يؤدي إلى النسيان، وأن انتهاج الحظر والعنف والقسر في مواجهتها لشعوبها يقمع أو يجهض طموح هذه الشعوب بالحرية. وبينما كانت المسألة الكردية، ولا زالت، عامل تفريق بين هذه الدول، فإن القاسم المشترك اليوم بينها هو توحيد الموقف في القضية نفسها، برفض استفتاء كردستان العراق، والتوافق على فرض عقوبات عليها، بين أطراف إقليمية تعيش حالة خصومة بل وحرب بالوكالة في ما بينها.
وبينما يوحّد التخوّف من إقامة كيان كردي ديموقراطي هذه الدول، يتم في الوقت ذاته تجاهل مطالب الشعوب (وضمنها الأكراد) التي تبدي بوضوح رغبتها في أن تبقى ضمن إطار الدولة الواحدة، (في سورية مثالاً) إذ تهيئ الأنظمة المستبدة لسيناريو النظام العراقي، على رغم أنها ترى نتائجه على أرض الواقع، ولا تحاول تدارك أسبابه، منعاً من تكرار السيناريو الذي يقود فعلياً الشعوب إلى التفكير بالانفصال، أو اللجوء إلى حلول شبه انفصالية، ولعل هذا ما يجب أن تفعله هذه الدول، في ما تبقى لها من خيارات متاحة مع شعوبها لإقامة نموذج الدولة الديموقراطية، على أساس المواطنة المتساوية، بدل أن تقود تلك الشعوب إلى خيارات المواجهة مع التقسيم والانفصال، في ظل انعدام الرؤيا والحكمة والتقدير لهذه الأنظمة، ومع الأسف أيضاً عند بعض معارضيها (وثيقة لندن أيلول/ سبتمبر 2016 التي تتحدث عن رؤية المعارضة لسوريا الجديدة، والتي تلاقت فيها الهيئة العليا للتفاوض مع النظام في تجاهل السعي لإقامة الدولة الديمقراطية لمواطنين أحرار متساوين).
لعل ما حدث في العراق يعطي الدول التي ترفض الاستفتاء درساً جديداً في حق المواطنين أفراداً ومجموعات، أو قوميات، ويجعل تفكيرنا في سوريا القادمة يختلف عن الأوراق المتناثرة التي ابتدعتها المعارضة في رؤيتها لسوريا ما بعد المرحلة الانتقالية، كما ينهي إلى الأبد سياسات النظام السوري الإقصائية والاستبدادية، التي مارسها لنحو خمسة عقود ماضية. فالنظام السوري الذي يقف اليوم معارضاً لاستقلال أكراد العراق، هو ذاته الذي طالما استخدمهم كورقة ضغط ضد نظام العراق، كما هو حال تركيا في استخدامها الأكراد ضد النظام العراقي، واستخدام إيران وسورية لأكراد تركيا ضد نظام الحكم في تركيا، ولكن في وقت الحسم الذي اختاره أكراد العراق، بعد طول انتظار، تناست هذه الأنظمة خدمات الأكراد، وتوظيفاتها الضيقة والسلطوية لهم، كاشفة عن حقيقة أن خلافاتها البينية يمكن تجاوزها لتحل مكانها توافقات المصلحة المشتركة في عرقلة المشروع أو الطموح الكردي.
ومن نافل القول أن الأنظمة العربية تحديداً التي تعلن رفض الاستفتاء (سورية والعراق) لم تستطع خلال عقود من استقلال دولها بناء مجتمعات المواطنة، التي تجعل كل المواطنين يشعرون بالانتماء المتساوي لهذه الأوطان وإزاء القانون والدولة، كما لم تبن لهم مصالح تربطهم بها، تجعل من الصعوبة لأي مكون أو فرد أن يذهب به الحال اليائس من أنظمته إلى البحث عن سبل للخلاص منها، تحت ظل الدولة الواحدة أو بالانفصال عنها. ومثلاً فقد كان للعراق فرصة النجاة، بكل العراق، من خلال ما اتفق عليه في الدستور الفيدرالي الذي اعتمد اللامركزية (2005)، لكن ارتهان ساسة العراق لإيران وخضوعه لهيمنة ميليشياتها المذهبية والمسلحة، والتراجع عن الاتفاقيات المبرمة مع الأكراد، أعطى المبرر، وسهل على الرئيس مسعود البرزاني في شمال العراق اللجوء إلى خيار المواجهة- الاستفتاء، آخذاً بيد مؤيديه على الأقل، إلى إحياء حلم ظنت الأنظمة أنه قد مات، بفعل القمع والتجاهل والتعصب وطمس حقوق المواطنة الكاملة للأفراد والقوميات، وقيادة شعبه نحو استفتاء هو أشبه بمغامرة، فالرجوع عنها يساوي الإقدام عليها.
في المقابل، فإن الحديث عن الاستقلال وكأنه نهاية المطاف لحلم الدولة بإقامتها، يشوبه عديد من المشكلات، إذا لم يرتبط بإقامة دولة مواطنين متساوين وأحرار، وبأنظمة ديموقراطية تخضع للمؤسسات والقانون، وإذا لم يعتمد النظر في مصالح حقيقية تربط كل مكونات المجتمع، أولاً – على أساس فردي وهو الأهم، لأن المواطنة هي التي تشكل البنية المجتمعية الأساسية. وثانياً- على أساس جمعي يأخذ في اعتباره حقوق المكونات الإثنية أو القومية أو الطائفية، في التعبير عن ذاتها. أي أنه من دون هذا الترتيب فإن هذه الدولة قد تكون إزاء مشكلات تؤجل ولا تموت، كحال ما هو قائم في بلداننا العربية ومنهم سورية. وعليه فإن ما ورد في «الوثيقة السياسية» لضمان حقوق المكونات القومية والدينية في كردستان، من تركيز على حقوق المكونات فقط، يجعل التخوّف مشروعاً، حيث الحديث يدور أساساً، أو في معظمه، عن ديموقراطية توافقية للجماعات، إذ سيكون ذلك محور الحياة السياسية، وكأن من صاغها استرشد باتفاق الطائف لانهاء الحرب الأهلية في لبنان، (الديموقراطية الطائفية)، وبذلك تتجاهل الوثيقة- إلى حد ما- والتي يفترض أنها تؤسس لدستور جديد لحقوق المواطنين الأفراد المستقلين عن الكيانات والانتماءات الجمعية، ما قد يكرس العصبيات والهويات الجمعية، قبل الوطنية، على حساب حقوق المواطنة الفردية.
ما يجب فــهمه من قبل الأنظمة وتحديداً النظامين السوري والإيراني أن ما حصل يوم الإثنين الماضي 25 أيلول ليس نهاية مرحلة، سيغلق بعدها ملف الأكراد في المنطقة، بل هو بداية لما يمكن تســميته مواجهة الواقع، لفتح الملف الذي لا يزال بعضهم يظنه قد أقفل إلى الأبد. وهذا يشـــمل ســورياً (النظام والمعارضة)، لهذا على الأطراف المعنية بسوريا المســـتقبل، ولا سيما أطراف المعارضة، أن تفكر بطريقة أخرى، لمعالجة المــسألة الكردية، بالضد من الســياسات الإقصائية التي اعتمدها النظام في مصادرته حقوق الأفراد والجماعات، وفي تجزئته الجماعة الوطنية السورية، ووضــعه مكـــوناتها في مواجهة بعضها، بدل العمل على إيجاد فرصة للنجاة بها كوحدة سورية، قبل التشدق بشعارات الوحدة مع الآخرين، وهذا لن ينجز إلا بإقامة دولة سورية كدولة مؤسسات وقانون ومواطنين متساوين وأحرار، وكدولة ديمقراطية «فيديرالية مثلاً» على غرار دول العالم المتحضرة، حيث الفدرالية على أساس جغرافي وليست على أساس اثني أو طائفي.
هكذا يمكننا القول بأن هذا هو الشرق الأوسط الجديد خاصتنا، وليس الذي كانت أعلنت عنه كوندليزا رايس الوزيرة السابقة لخارجية الولايات المتحدة الأميركية، منذ عام 2006، والأجدى أن نقول إن الأنظمة الاستبدادية هي التي تجعل من العرب عربين، ومن السيادة الوطنية مزارع حكم استبدادية، وبالتالي هي السبب الأساس في خلق «الفوضى الخلاقة» التي بشرت بها رايس ذات مرة.