حنين النقري – دوما
لعل من أجلّ دروس الثورة فضلًا علينا، وأكثرها ‹ثورة› في نفوسنا، هو التفريق بين الآبائية والخروج عنها، وبين العقوق المذموم بكل الشرائع والأديان، فكما الحال مع أي دين جديد يعلن القطيعة بين اختيارات الأبناء واختيارات آبائهم، ولا يجعل من ضلال الآباء مبررًا لضلال أبنائهم واستمرارهم على ذات النهج؛ كذلك كان حال ثورتنا، علمتنا أن ما كل ما كان وكل ما اختاروه كان مصيبًا، أن صمتهم وخوفهم وتخويفهم لنا في صغرنا أوصلنا لما نحن عليه، وأن علينا أن نقف أمام تجاربهم نظرة المستفيد لا المعيد للماضي..
لا أدعو هنا للوم والمكاشفة أبدًا، ﻷن خيارات واقعهم ومجرياته تختلف عن واقعنا وما نعيشه اليوم تمامًا، ولا فائدة من إقحام نموذج اليوم في الماضي، ولكن وبنفس الوقت، لا فائدة تُرجى من إقحام نموذج عفا عليه الزمن (وما استطاع إصلاح أمس ليصلح اليوم)، نحن جيل جديد ولنا خياراتنا التي آن لنا أن نتحمل مسؤوليتنا تجاهها، لن يتحملها أحد سوانا، ولن يُسأل عنها أحد سوانا؛ وكما سألنا نحن آباءنا عن أمس، سيسألنا أبناؤنا في الغد القريب عما فعلنا حيال تحديات اليوم، عن الأدوات التي استخدمناها تجاهها.
الخروج عن قالب الآباء المفصّل على مقاسات عصرهم؛ بطواغيته ونكساته ونكباته وحروبه وخيباته؛ ثورة لا تقل أهمية عن تجليات الثورة الأخرى في حياتنا..
ثورة على واقع سياسي كان يبجل الأحزاب والخطب الرنانة والاجتماعات الحزبية الجوفاء، ويتحمس للبيان رقم واحد دومًا؛ دون أن يرصد نتائج ملموسة حقيقية لهذه الاجتماعات وتلك الخطب المؤثرة الملقاة بطريقة مسرحية، والبيانات المتّسمة بطابع النصر دومًا!
ثورة على واقع عسكري تركه آباؤنا لفئة ما بكل إرادتهم في البداية، فكانت المناصب والقيادات وأركان الجيش جميعها بأيدي من نحاول اليوم إسقاط حكمهم فيتمترسون بجيش تركناه لهم، لحماية مناصبهم وطول أمد تسلّطهم…
ثورة على واقع ديني ارتدى حلّة التقديس والتبجيل وتقبيل الأيدي على مرّ العقود، وآن له أن يتوقف عن تقبيلها ويرتفع قليلًا ليحاكم ما يصدر عن هذا العالم، مهما كان وقع خطبه مؤثرًا، مهما كان عديد روّاده ومريديه…
ثورة على واقع اجتماعي لازال يحتاج منّا لكثير من الجرأة والقوة والحسم، لنعلن خيارات نراها صحيحة بكل المقاييس، لا يعيبها إلا أنها تخالف قوالب أهلنا ولا تناسب المعايير التي كانوا يرون الأمور ضمنها: تقييم الناس والأمور، الزواج وما يشمل اختياراته والبذخ والإسراف والمظاهر والحفلات، تربية الأبناء، التعليم وواقعه وأساليبه، النقد للأخطاء أيا كان فاعلها…والأمثلة على ذلك كثيرة …
ولعلّ من أكثر لحظات حياتك جلالًا وهيبة، تلك اللحظة التي أغلقت فيها الباب خلفك واخترت النزول للشارع لفعل ما تؤمن به، بكذبة على اهلك أحيانًا، تحايل ومواربة أحيانًا، ثم بصريح اللفظ « رايح اتظاهر..ادعولي»، بما يمثّله ذلك من ممارستك لخياراتك بأدواتك أنت، تلك التي آن لك أن تتقن استخدامها، متناسيًا ما قالوه لك أنه من عقوق الوالدين، محاولًا أن تفرّق بين الحقّ واتّباعه، وبين خوفهم الذي يستخدم أدوات ولهجات أقرب للابتزاز العاطفي لثنيك عن الصواب،
لحظة أغلقت الباب وخرجت، كنت تغلق الباب أيضًا في وجه كل زوايا وتفاصيل القالب غير المفصّل لك…أغلقت الباب وخرجت معلنًا ما تريد، وستعود لهم، مع الكثير من الحب، الكثير من الرضا، وقبلة حانية على اليدين والجبين، بصوتك المبحوح الرائع الذي سيخبرهم أنك اخترت أدوات مستقبلك المختلفة عما يرون، لكنّك مازلت تحبهم، حريصا على برّهم.. كل الحرص