غالبًا لن يُصدق قارئ رواية “القلعة البيضاء” للكاتب التركي أورهان باموق، أن هذا الكم الهائل من الأزمنة والأحداث والعوالم المختلفة التي غرق بها أثناء قراءته لهذا الكتاب، يمكن أن تختصر بـ 150 صفحة فقط.
فالرواية، وبالرغم من صغر حجمها، إلا أنها مُنهكة لأبعد حد، إذ تحصر في بين دفتيها أحداثًا نفسية وتاريخية وفكرية هائلة، تورط قارئها بمشاكل شخصياتها حتى ينتهي به الحال حائرًا وكأنه شخصية مكتوبة بمهارة لكنها تمكنت بطريقة ما من الفرار من الرواية، لتقرأ الأحداث التي عاشتها بشكل من الأشكال يومًا ما.
فالرواية تناقش قضايا مهمة في تكوين كل من الشخصيتين الغربية والشرقية، وطبيعة العلاقة بين كلا العالمين، بما تحمله من تعايش أو تنافر بين الحضارتين.
ونتعرف على أحداث الرواية من خلال الشاب الإيطالي المسيحي الذي وقع أسيرًا بيد البحارة العثمانيين أثناء رحلة بحرية من البندقية إلى نابولي، ليجد نفسه عبدًا في موانئ اسطنبول.
إلا أن الأسير الإيطالي، الذي لن يسميه الكاتب سريعًا، يصبح ذا مكانة ترفعه قليلًا عن مصاف العبيد، بسبب ثقافته وعلومه وإتقانه للغة التركية بسرعة كبيرة.
وسرعان ما سيتبدل غضب العثمانيين عليه لرفضه تبديل دينه إلى إعجاب بشجاعته وثقة بمبادئه، ووصل به الحال إلى أن عينوا له مرافقًا ليتعلم منه مختلف أنواع العلوم لا سيما فيما يتعلق بصناعة الأسلحة.
سيكون هذا المرافق موازيًا للأسير من حيث التصوير الروائي، فهو أيضًا لا يملك اسمًا، إنما مجرد لقب، وهو “الأستاذ”، وهكذا يبدأ الأسير الإيطالي بخلط الذكريات والأحداث بينه وبين مرافقه، معتقدًا بإيمان راسخ أنهما شخص واحد.
الأسير الذي بدأ قصته عبدًا، أنهاها مقربًا من السلطان العثماني، وأحد أشهر رجال السلطة في البلاد المختلفة عن حضارته كل الاختلاف.
التغيير لن يطال شخصيات الرواية وحدها فقط، فأنت أيضًا غالبًا ستفقد ابتسامتك الواثقة من معرفتك لما يجري، والتي منحك إياها الكاتب في الصفحات الأولى، فلا تنهي الصفحة الأخيرة من الرواية إلا وأنت غارق في متاهة الحيرة التي يرسمها أورهان باموق بحرفية عالية، دافعًا إياك للتساؤل: هل كان الأستاذ “الشرقي” والأسير “الغربي” شخصًا واحدًا بالفعل؟