عن الاستقلال وأشياء أخرى

  • 2017/09/24
  • 1:12 ص
محمد رشدي شربجي

محمد رشدي شربجي

محمد رشدي شربجي

بشكل عام لم تأت التجارب الوحدوية في الحالة العربية بخير يستحق الرثاء، لعل أبرز مثال على ذلك هو حالة بلدنا سوريا، التي قررت نخبته السياسية والعسكرية في لحظة طيش التضحية بديمقراطيته المتعثرة وترحيل خلافاتها إلى جمال عبد الناصر في سبيل الوحدة العربية، التي كانت أحد حوامل نضال الشعوب العربية نحو الاستقلال.

لم تدم الوحدة المذكورة أكثر من بضع سنوات، كانت كافية بالنسبة لعبد الناصر لإلغاء تام لأي مظهر ديمقراطي في سوريا، وتأسيس دولة بوليسية برئاسة عبد الحميد السراج، كانت نواة الدولة البوليسية ذاتها التي نكتوي بنارها اليوم. هناك في القاهرة أيام الوحدة وقبل الانفصال بنحو عام ونصف، أسس حزب البعث لجنته العسكرية الخاصة، كان من أبرز أعضائها حافظ الأسد.

في اليمن لم تختلف تجربة الوحدة في كارثيتها عن الحالة السورية، الوحدة بين الشمال والجنوب كانت في حقيقتها استباحة شمالية لجنوب اليمن، وقضت على مكتسبات الدولة في الكيانين، بعد أن رسخت من حكم علي عبد الله صالح، الذي استطاع بفضل الوحدة ممارسة ساديته على مساحة جغرافية أكبر.

ليس السعي نحو الاستقلال خاصة بالحالة العربية بطبيعة الحال، أقل من النصف بقليل من الاسكتلنديين (الإحصائيات الحالية تشير إلى تجاوزهم النصف)، أرادوا الانفصال عن المملكة المتحدة عام 2014 بعد 300 عام من الوحدة، وهو ما قد يثير العجب لدينا، نحن أبناء العالم السفلي، من يريد ألا يكون مواطن المملكة المتحدة مالكة الفيتو وأقوى دول العالم؟

جنوب القارة الأوروبية يسعى إقليم كاتالونيا بما يستطيع للانفصال عن مدريد بعد زواج استمر ثلاثة قرون. ما يجعل الحديث عن “الاندماج” في مهب الريح.

يبدو إذن أن التبشير بـ “نهاية عصر القومية” كلام فارغ، بل على العكس تكتسب القومية وهويات فرعية أخرى زخمًا يومًا بعد يوم، وبدل أن تساهم وسائل التواصل الاجتماعي في العالم بالحديث عن خلق هوية عالمية ليبرالية كما افترض البعض، ساهمت بإحياء هويات كانت آيلة للاندثار، إنه “عصر الهويات” بحسب تعبير الفرنسي مارسيل غوشيه.

على العكس من التجارب الوحدوية، جلب الانفصال أو الحكم الذاتي الاستقرار والرخاء لبعض الجماعات في العالم العربي، لدينا مثلًا تجربة جمهورية أرض الصومال (صوماليلاند)، وهي كيان في شمال الصومال أعلن انفصاله من جانب واحد في بداية تسعينيات القرن الماضي، ولم يعترف به أحد من الدول، وخلافًا للفوضى العارمة التي تضرب الصومال، يعيش هذا الإقليم بحالة استقرار أمني وسياسي نادرة، ومع حالة جيدة لحقوق الإنسان وتداول سلمي مقبول للسلطة.

الحالة الأخرى موضع الحديث هي كردستان العراق. بداية نشوء المشكلة الكردية في العراق هي بداية تشكل العراق الحديث ذاته، ومنذ البداية لم تتوقف الحرب في شمال العراق يومًا، عدة ثورات فاشلة، وعدة محاولات لتأسيس دولة انتهت دائمًا بمجازر ومذابح تفنن بعث العراق بتنويع أشكالها، ولا يوجد من وجهة نظري أغرب من الكلام من أن الاستقلال سيؤدي إلى مزيد من الصراعات في العراق، وكأنه كان جنة الاستقرار أساسًا.

منذ إسقاط نظام صدام حسين، يعيش الإقليم في حالة شبه استقلال، ولعدة سنوات، حقق استفادة قصوى من وضعه كإقليم شبه مستقل لا تتدخل بغداد في شؤونه الداخلية والخارجية، في حين ينال حصة من ميزانية العراق باعتباره جزءًا منه، وفي الوقت الذي يعيش فيه العراق فوضى عارمة، وغيابًا تامًا لأدنى شكل من أشكال الدولة والتخطيط، وانفلاتًا أمنيًا يزداد اتساعًا على الرغم من مضي 14 عامًا على الغزو، استطاع كرد العراق بناء نظام سياسي وأمني مستقر، مع مناخ مقبول للحريات العامة (جملة المقارنة هنا هي بغداد وليس سويسرا طبعًا).

ليست الحالة مثالية بطبيعة الحال، ولا يخفى على أحد رغبة بارزاني البقاء في السلطة إلى الأبد، ولا تغول عائلته على قطاع المال والأعمال في الإقليم، ولكن بالمقارنة (مرة أخرى) استطاع كرد العراق بناء نظام أفضل بما لا يقاس بما قدمه عرب العراق سنة وشيعة.

لا شك أن الحالة النموذجية هي أن تجد مكونات العراق صيغة تضمن لهم عيشهم المشترك، ولكن أنّى للعراق هذه الحياة ووجوه العرب هم صدام حسين ونوري المالكي وأبو بكر البغدادي؟ لا يعني هذا طبعًا الموافقة على كل المزاعم الكردية فيما يخص المناطق المتنازع عليها، ولكن ما الذي يجب أن يدفعني لتمني أن تبقى كركوك مثلًا تحت سيطرة بغداد؟ هل علي أن أدعم سيطرة ميليشيات الحشد الشيعي على مزيد من الأموال لكي يرسلوا لنا مزيدًا من المرتزقة لتدافع عن بشار الأسد؟

لا شك أن الحل لشعوب المشرق الأربعة الكبرى (العرب والكرد والفرس والترك) هو اتحاد من نوع ما قد يكون شبيهًا بالاتحاد الأوروبي يسمح لهذه المكونات بتبادل البضائع والثقافة بدل القذائف، ولكن حتى ذلك الحين يجب على الأطراف أن تعترف ببعضها وبحقها في الوجود، وهذا لن يحدث دون ديمقراطية، يبدو مسار الاستقلالات المضرجة بالدماء مسارًا إجباريًا حتى الوصول إلى تلك الحالة. وقد كان من الممكن أن يجنبنا التعلم من تجارب قائمة كل هذا، ولكن الإنسان لا يتعلم إلا من كيسه، كما يقال.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي