في محاولة الوصول إلى تركيا من دمشق، كان على ريم (24 عامًا) أن تجرّب طريقين، أحدهما يستدعي قطع مناطق سيطرة فصائل المعارضة في الشمال السوري والوصول إلى الحدود للدخول عبر طرق التهريب، والآخر يستوجب السفر إلى لبنان للحصول على موعد من السفارة التركية وتقديم طلب الحصول على تأشيرة دخول.
الملابس تفضح الاختلاف السياسي
“كان علي أن أرتدي لباسًا شرعيًا كي أعبر بطريقة غير شرعية، ولباسًا غير شرعي للحصول على الفيزا والوصول بطريقة شرعية إلى تركيا”، بشيء من المبالغة وبنفَس سخرية، تتحدث ريم في لقاء مع عنب بلدي عن محاولتيها للدخول إلى تركيا، إذ باتت الجغرافيا في سوريا تحدد للسكان نمط اللباس الذي عليهم ارتداؤه، لا سيما أثناء التنقل بين حاجز عسكريّ وآخر.
في مدينة إدلب، التي اضطرت ريم أن تقضي ليلتين فيها قبل أن تفشل رحلة التهريب إلى تركيا، يُفرض على الفتيات أن يرتدين لباسًا إسلاميًا، وعلى الرغم من إشكالية التحديد في وصف “إسلامي” إلا أنّ العُرف الجديد الذي فرضته بعض الفصائل يحدده بـ “العباية”، ويمكن أن يقبل بـ “المانطو” على مضض على اعتبار أنه أكثر “وصفًا لجسد الفتاة”، إضافة إلى الحجاب الذي يفضل ألا يكون ملونًا.
تلك الثقافة في اللباس يمكن أن يشار إليها بأنها باتت عامة في مناطق سيطرة فصائل المعارضة في محافظات حلب وحماة وإدلب، وعلى الرغم من أنها لا تبتعد كثيرًا عن النمط السائد قبل اندلاع الثورة، إلّا أن اللباس لا يعبر عنها بالمجمل، كما يمكن أن يرقى ليكون شكلًا من أشكال “الإجبار”، كما وصفته الدكتورة رانيا قيسر، مديرة منظمة “شاين” العاملة في إدلب.
قيسر التي لم تكن محجبة في السابق، ترتدي اليوم العباءة في إدلب مسايرةً للمفروض، وذلك لا يزعجها كونها ترغب في مساعدة أبناء بلدها “وتحقيق هدف أسمى خلال وجودها في إدلب”، وتؤكّد أنّ الفتيات بتن يرتدين النمط السائد من الملابس “ابتعادًا عن المشاكل”، إذ تعمل دوريات “مكتب الدعوة النسائية” في المدينة وبعض القرى والبلدات المحيطة على تنبيه الفتيات في حال ارتدائهن “مانطو” غير طويل، أو وضع حجابات مرفوعة، الأمر الذي يمكن أن يحيلهن إلى الاحتجاز التأديبي.
نور التل، إحدى السيدات اللاتي تعرّضن للتنبيه من قبل نساء “مكتب الدعوة” بعد أن غادرت تركيا خلال إجازة العيد للالتقاء بأقربائها في إدلب، ورغم أنها اصطحبت معها “مانطو” تجنبًا للملاحظات، إلا أنّها مُنعت من دخول الحديقة العامّة لكون ملابسها “مخالفة”، فالمانطو “لم يكن بالطول المناسب”، حسبما أكّدت لعنب بلدي، وذلك ما جعلها بنظرهم ضمن فئة “الكاسيات العاريات”، كما تقول.
الضغط على النساء يأتي بالرغم من سيطرة المجتمع “الملتزم” عمومًا في المحافظات السورية، التي ترتدي نسبة كبيرة من فتياتها الحجاب، لكن مفهوم “الالتزام” يختلف من وجهة نظر بعض الفصائل، عن المفهوم السائد في سوريا، فيما تبدي فتيات ونساء أخريات ارتياحهن للأمر، على اعتباره سيرًا في طريق التعاليم الإسلامية الصحيحة.
وتتفاوت حالة الفرض والإجبار على ارتداء ملابس معينة بين منطقة وأخرى، وذلك بحسب الفصيل المسيطر على القرية أو البلدة، وتشير مراسلة عنب بلدي في إدلب إلى أن المكتب الدعوي النسائي أسسته “جبهة فتح الشام” (النصرة سابقًا)، ما يجعل نشاطه يتركز في مناطق انتشار الفصيل.
على الجانب الآخر، وفي مناطق سيطرة النظام السوري، بات التغيير في أنماط الملابس ملحوظًا باتجاه الابتعاد عن التقاليد والمبالغة في نشر الأنماط الغربية، في هذه الحالة ليس ثمة من يفرض نوع الملابس وإنما بيئة اجتماعية تساعد في كسر الأعراف بفعل متغيرات الحرب، يدعمها النظام الذي يحاول رسم صورة “سوريا بعيدة عن التشدد الإسلامي وقريبة من العلمانية”.
وعلى اعتبار أن “لكل مقام مقال”، فقد بدأت الأنماط الغربية تنتشر في بعض مناطق سيطرة النظام، وتفرض “مقامها”، إذ تؤكّد ريم، التي طلبت عدم ذكر اسمها الكامل لأسباب أمنية، أن الفتيات بتن يرتدين ملابس لم تكن مقبولة في المجتمع السوري، وتضيف “العام الماضي اضطررت لارتداء أكثر ملابسي مسايرة للموضة من أجل تسهيل العبور إلى لبنان وإقناع الأمن العام أني لست متشددة، واليوم أواجه ذات المشكلة مع بعض السوريين في عملي”.
وترى الدكتورة رانيا قيسر أنّ حالة “التغريب” في الملابس التي تنتشر في مناطق سيطرة النظام، أخطر من حالة فرض الملابس المتشددة في مناطق سيطرة بعض فصائل المعارضة، لافتةً إلى أن “الإجبار” لا يمكن أن يغير المجتمع لأنه “مؤقت”، فيما تتخوّف قيسر من “انهيار المنظومة الاخلاقيّة في سوريا”، الأمر الذي لا يتم العمل من أجل تدارك آثاره من قبل أحد.
وقد تبدو مناقشة أنماط اللباس تدخلًا في حريات شخصيّة وطرق تفكير، إلّا أنّ النظر إليه على اعتباره انعكاسًا للمتغيرات الاجتماعية الطارئة يجعله نذير خطر، وذلك مع “التطرّف” الذي حلّ بالاتجاهات الفكرية للسوريين وتسبب بالتالي في تفاقم الفوارق، وخلق مجتمع سوري مركّب يصعب التعايش بين أفراده، بديل عن مجتمع كان يومًا أقرب للتجانس.
السوريون “على دِين ملوكهم“
إعادة ترتيب أمور المواطنين وتنظيم حياتهم المدنية كانت إحدى أولويات القوى المتنازعة في سوريا فور سيطرتها على منطقة معينة، كنوع من إثبات الشرعية، ليصبح لكل جهة مسيطرة طابع خاص، انعكس بشكل أساسي على لباس المواطنين الخاضعين لسيطرتها.
اتجهت المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري نحو تحرر نسبي في اللباس، بشكل لم يعهده المجتمع السوري المحافظ، وذلك ضمن خطة، يقول البعض إنها “منهجية”، سعى النظام من خلالها إلى تبرئة نفسه من تهم “التشدد” و”التطرف الديني” أمام المجتمع الدولي.
في حين اتجهت الفصائل المعارضة له إلى فرض لباس “شرعي” على المواطنين تحت دعوى “مكافحة الفساد الأخلاقي”، لتثبت للمجتمع السوري المحافظ أن هدفها إصلاح ما أفسده النظام.
ويبدو أن المواطنين السوريين تاهوا بين التحرر والتشدد في اللباس أمام انهيار غير مسبوق للعادات والتقاليد، إلا أن معظمهم قرروا اتباع “دين” السلطة الحاكمة وانتهاج ما تفرضه عليهم، حفاظًا على أمنهم وسلامتهم وإزالة “الشبهات” عنهم.
داعيات يكافحن “الكاسيات العاريات“
مع سيطرة الفصائل الدينية على مناطق مثل إدلب، المعقل الرئيسي للمعارضة، صدرت قرارات وتوجيهات عدة مُنع بموجبها “تبرج” النساء وخروجهن بغير اللباس “الشرعي”، الذي حدده “جيش الفتح” بأن يكون فضفاضًا وألا تكون العباءة (المانطو) قصيرة أو ملونة أو مزخرفة.
كما اشترط على النساء عدم رفع العباءة وفتحها، وعدم التعطر والتنمص (رسم الحاجبين)، وعدم إظهار العينين من النقاب مزينتين بزينة الكحل وغيره.
وأصبحت عبارة “الالتزام باللباس الشرعي” ترافق “الخبرة والشهادة” في إعلانات طلبات توظيف النساء في مناطق سيطرة فصائل المعارضة، خاصة في محلات بيع الملابس النسائية والأسواق والمدارس.
وهنا برز ما يسمى “مكتب الدعوة النسائي”، ومهمته مراقبة مدى التزام النساء باللباس المفروض، تطبيقًا لقرار “جيش الفتح“، الصادر نهاية تشرين الأول 2015، وذلك عبر إرسال دوريات من الداعيات إلى الشوارع والأسواق والجامعات، تحت شعار “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
وفي حال وجدن سيدة لم تلتزم باللباس “الشرعي” وجهن لها تحذيرات، قد تصل إلى عقوبة الحبس “التأديبي”، الذي تتلقى السيدة خلاله نصائح دينية وتكتب تعهدًا بعدم تكرار ما فعلت.
اللباس “الشرعي” بين النصح والإجبار
لم تُجبر قرارات “جيش الفتح” النساء على تغطية الوجه واليدين، وفق ما قالت “أم مارية” إحدى العاملات في مكتب الدعوة النسائي، مؤكدةً لعنب بلدي أن ما فُرض هو اللباس الطويل الفضفاض.
وقالت أم مارية، التي تعمل مُدرّسة تربية دينية في مدينة إدلب، إن الكثير من النساء لم يستجبن لهذا القرار، ما استدعى توظيف داعيات في مكتب الدعوة مهمتهن مراقبة مدى التزام النساء في الشوارع والأسواق والمدارس والجامعات باللباس “الشرعي”.
أم مارية أشارت إلى صدامات عدة حدثت بين الداعيات والنساء في هذا الصدد، مرجعةً السبب إلى عدم امتلاك بعض الداعيات أسلوبًا “ليّنًا” في نصح النساء، كونهن جديدات على هذا العمل ولا يمتلكن الخبرة الكافية فيه، على حد قولها، بالإضافة إلى “بُعد بعض النساء عما فرضه الدين والشرع لفترة طويلة”.
“هنا انقسم المجتمع، بين بنات نفرن من اللباس الشرعي بسبب موقف خاطئ من بعض الداعيات، وأخريات التزمن بذلك اللباس عن قناعة بسبب الأسلوب الحكيم لبعض الداعيات”، تقول أم مارية.
انقسام المجتمع هذا أفضى إلى انقسام بين الداعيات أنفسهن عندما فضّلت بعضهن استخدام القوة، فيما فضلت أخريات استخدام اللين والعلم والنصح قبل الفرض.
رانيا قيسر، مديرة منظمة “شاين” في إدلب، قالت لعنب بلدي إن الكثير من الفتيات أُجبرن على الالتزام بلباس لم يعتدن عليه سابقًا، مشيرةً إلى أنهن يمارسن حياتهن السابقة داخل منزلهن دون أي تغيير، في حين غيّرن نمط خروجهن من المنزل تجنبًا لأي “مشكلة”.
وبرأي قيسر فإنه وعند انتهاء الحرب في سوريا، ستعود تلك الفتيات إلى نمط لباسهن القديم في حال لم يكنّ مقتنعات بفرض اللباس “الشرعي”، مشيرةً إلى أنه يبقى أفضل من “الانحلال الأخلاقي” الذي تشهده مناطق النظام، على حد قولها.
أما مدرسة اللغة العربية عبيدة محصي فترى أن إجبار الفتيات على الالتزام باللباس “الشرعي” بالقوة قد يبعدهن عما فرضه الدين ويجعلهن ينفرن من النصح، خاصة أن بعض الداعيات “لم يكنّ يمتلكن أدنى مقومات الداعية، من خلق حسن وعلم شرعي وحجة وبرهان ودليل”، حسبما قالت.
واستدلت محصي بأن بعض الفتيات قد خلعن اللباس “الشرعي” بمجرد غياب الرقابة، إلا أن هذه الظاهرة “تراجعت” بسبب استناد الفتيات إلى العلم والبرهان في المعاهد الشرعية والمساجد.
زي الرجال.. دعوات دون فرض
لم تفرض الفصائل المعارضة لباسًا محددًا على الرجال كما هو الحال مع النساء، إلا أن الصورة العامة للمجتمعات الخاضعة لسيطرتها بدأت تدريجيًا تأخذ نمطًا معينًا في لباس الرجال ومظهرهم العام.
وكثيرًا ما يحث خطباء المساجد الرجال على إطالة اللحية وارتداء العباءة البيضاء (الجلابية)، دون فرض ذلك عليهم.
كما أن بعض الرجال، المقيمين خارج مناطق سيطرة الفصائل الدينية، يعمدون إلى إطالة لحاهم في حال اضطروا للمرور من تلك المناطق، نتيجة لتصورهم المسبق بأن ذلك أمر مفروض، أو لضمان أمنهم وسلامتهم.
إلا أن مسؤولية من نوع آخر أثقلت كاهل الرجل في مناطق المعارضة، كونه مسؤولًا عن زوجته أو أخته ومدى التزامها باللباس الشرعي، إذ غالبًا ما يتعرض هو للعقوبة في حال ضُبطت أخته أو زوجته متبرجة أو مخالفة للباس الشرعي، ويعامل على أنه “محرم” لها والمسؤول عن “أخطائها”.
توجهات نحو التحرر في مناطق النظام
رغم أن النظام السوري لم يصدر قرارات أو يتخذ إجراءات حول نوعية اللباس التي يتوجب على النساء الالتزام بها، إلا أن توجهات نحو التحرر من قيود المجتمع المحافظ بدت جلية في السنوات الأخيرة، من منطلق أنها “حرية شخصية”.
وهنا برز دور الإعلام المحلي والعالمي في الترويج للنساء “المتحررات” اللواتي يسهرن في النوادي الليلية ويرتدين “البيكيني” على شاطئ البحر، في صورة تخدم النظام أكثر من أن تسيء له، كونه اتجه إلى مخاطبة المجتمع الدولي على أنه نظام “علماني” يواجه “التشدد الديني”.
تقول لمى، المحاضِرة في جامعة حلب، إن نمط لباس الفتيات تغير كثيرًا في مدينتها الخاضعة لسيطرة النظام، مشيرةً إلى توجه الفتيات المحجبات إلى ارتداء الزي الضيق بالإضافة إلى “مبالغة” غير المحجبات في لباسهن، بشكل لم يعتد عليه المجتمع السوري بالنسبة للفئتين.
وأضافت لمى (30 عامًا) أن انهيار العادات والتقاليد مقابل ما يشهده السوريون من معاناة، بالإضافة إلى حركات النزوح التي شهدها المجتمع السوري، كانت السبب في التوجه نحو التحرر دون حساب لـ “كلام الناس” الذي كان الهاجس الأكبر للسوريين في سلوكهم الاجتماعي.
ومن منطلق السلامة، أصبحت النساء يبتعدن عن النقاب في مناطق سيطرة النظام السوري، تجنبًا للشبهات عند المرور على الحواجز العسكرية، ووصمهن بـ “الداعشيات”، كما تقول لمى.
كيف ميّزت ملابس النساء المدن السورية قبل الحرب؟
بالنظر إلى نمط الملابس كصورة تميّز عادات المجتمع وأسلوبه في التعبير عن نفسه، ظلّت المحافظات السورية قبل الثورة السورية تتمسّك بنمط خاصّ بها في اللباس يستطيع أن يساير متغيرات الموضة العالمية ويتقبّل بعض التغييرات، إلا أنه يستمر في تمييز نفسه وبالتالي تمييز المدينة التي يعبّر عنها.
رافق اندلاع الحرب في سوريا تغيّر في أنماط اجتماعية وانزياحات ديموغرافية وتعميق للاختلاف في الاتجاهات الفكرية، وبدا ذلك جليًا في المظهر العام للسوريين، كانعكاس للواقع الأمني أو المعيشي أو الفكري، فلم يعد اختلاف اللباس مرتبطًا بالمحافظات هذه المرة، بل بالسيطرة العسكرية وما تفرضه من أفكار تقيّد المظهر العام أو تزيل عنه بعض القيود.
وإن كانت الاختلافات في نمط اللباس بين المحافظات تتركز في بعض التفاصيل، إلّا أنّ المظهر العام للسوريين اتسم لفترة طويلة بكونه “محافظًا” بتأثير العرف الاجتماعي قبل العرف الديني، الأمر الذي يبدو جليًا في لباس المرأة في كل محافظة.
وعلى الرغم من أنّ الطابع الإسلامي كان طاغيًا مع انتشار الحجاب على نطاق واسع في المحافظات السورية، إلا أنّ أغلب المدن والبلدات كانت توفر بيئة مناسبة للنساء اللاتي لا يرتدين الحجاب، بالتالي كان العرف الاجتماعي السائد يفرض على الطرفين نسبة من قبول الآخر، تجعل النمط العام في المجتمع السوري أقرب للوسطية وأكثر بعدًا عن التطرف في المظهر الخارجي.
في محافظات حلب وحماة وحمص، التي تحوي الغالبية من المسلمين السنة، الأكثر التزامًا بالمظهر الديني، بقي المانطو والحجاب الأسود بالنسبة للنساء الأكثر انتشارًا، فيما اختلف الوضع بالنسبة للشابات، اللاتي غالبًا ما يرتدين الحجابات الملونة مع الستر الطويلة، أو لا يرتدينه لكن دون الخروج عن “الحشمة” في اللباس.
الأمر ذاته ينطبق تقريبًا على المجتمع الدمشقي، الذين تتميز نساؤه بالحجابات البيضاء ذات الربطة، التي انتشرت بتأثير مدرسة “القبيسيات” الدينية.
محافظات الساحل السوري كانت الأكثر تحررًا من تأثير الدين على الملابس، وعلى الرغم من ذلك كانت محكومة بعادات اجتماعية “شرقية” تحدّ من حريّة ارتداء ملابس غير مناسبة للوسط المحيط، وذلك أيضًا يمكن أن ينطبق على المناطق التي يتركز فيها الكرد شمال شرق سوريا.
بالمجمل، لم يكن الاختلاف في نمط اللباس سابقًا ظاهرة تعكس شروخًا بقدر ما تعكس تقاربًا ووحدة في العرف، فيما يعكس التطرف في ذلك الاختلاف اليوم مزيجًا من القمع وردّ الفعل المضاد، ويشير إلى حالة الفصل الكبيرة والانقسامات العميقة التي وسمت المجتمع السوري.
عميد كلية الشريعة في إدلب:
قرارات فرض اللباس تحفظ من الرذيلة
أجرت عنب بلدي لقاء مع عميد كلية الشريعة في جامعة إدلب، إبراهيم شاشو، حول تفاصيل فرض اللباس “الشرعي” على النساء في المدينة ومجريات تطبيقه، وناقش العميد نقاط وملابسات عدة حول القرار.
اللباس “الشرعي” لا يقيّد عمل المرأة
من وجهة نظر عميد كلية الشريعة في جامعة إدلب، إبراهيم شاشو، فإن اللباس الذي فرضته قرارات “جيش الفتح” يمتثل لأمر “رباني” وليس لأمر “شخصي”، وأن هدفه هو “حفظ وصيانة المجتمع في المناطق المحررة من أن يقع في مستنقع الرذيلة”.
وأضاف شاشو أن الإسلام يوجب على المرأة الحجاب وعدم التبرج وإظهار مفاتن الجسد، وأن مهمة أهل العلم متابعة مدى تطبيق النساء لهذا الأمر ونصحهن، وأضاف “من هنا جاءت مسألة متابعة الالتزام بالحجاب في الشوارع والمدارس والجامعات والأسواق، لأمر رباني أمر الله به المرأة، وأمر أهل العلم بالدعوة إليه”.
شاشو قال إن اللباس “الشرعي” لم يمنع النساء في مدينة إدلب من الدراسة والعمل في مجالات عدة، وإنما وضع لها “ضوابط” بما يحفظ كرامتها، حسبما قال.
وأضاف “من هذه الضوابط أن تلتزم المرأة أثناء عملها وأثناء دراستها بالحجاب الشرعي الذي يحفظ لها مكانتها”.
“وسائل الإعلام تبالغ“
في حديثه عن ملاحقة داعيات مكتب الدعوة للفتيات في الشوراع، قال عميد كلية الشريعة إن هناك “مبالغات” من قبل بعض وسائل الإعلام التي تروج لمضايقات من قبل الداعيات وأنهن يلاحقن كل فتاة تمشي في الشارع.
ونفى شاشو ما تم ترويجه عن منع الفتيات من ارتداء حجابات ملونة، مؤكدًا أن طالبات الجامعات يرتدين حجابات بلون أزرق أو أخضر وغيره، وقال “الشرع لم يحدد لونًا معينًا للحجاب، مع أن اللون الأسود هو أفضل وأستر”.
وأشار العميد إلى أن الداعيات لم يتعرضن لأي فتاة لم تغطِ وجهها، كون هذه المسألة مختلفًا عليها من قبل أهل العلم، على حد قوله، وأكد أنهن “لا يدققن” على لون الحجاب واللباس أيضًا.
اعتراف بوجود أخطاء “نادرة“
لم ينكر عميد كلية الشريعة في جامعة إدلب وجود أخطاء من قبل بعض الداعيات أثناء تطبيقهن قرار فرض اللباس “الشرعي”، مضيفًا أنها حالات “نادرة وليست قاعدة”.
وأرجع العميد سبب هذه الأخطاء إلى اختلاف الخبرات والكفاءات بين الداعيات، مؤكدًا أنها تُتابع من قبل الجهات المختصة، التي تعمل على تأهيل الداعيات من أجل النصح بـ “الحكمة والموعظة الحسنة”، ومن قبل القضاء الذي يعمل على ملاحقة الطرف المسيء.
ودعا إبراهيم شاشو في ختام حديثه إلى “عدم التقليل من شأن الداعيات وإنكار فضلهن في تطبيق شرع الله، الذي لا يقل أهمية عن القتال في الصفوف الأمامية”.
إجماع على التأثير..
“السوريون سيعودون إلى ما كانوا عليه“
أجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي عبر موقعها الإلكتروني حول مدى تأثير توجه الجهات المسيطرة في سوريا، الديني والسياسي، على نمط لباس المواطنين الخاضعين لسيطرتها.
وبدا واضحًا أن غالبية المشاركين يعتقدون أن لسلطات الأمر الواقع تأثيرًا قويًا في فرض نمط معين من اللباس على السوريين، وإن كان ذلك بشكل غير علني.
71% من المشاركين في الاستطلاع، والبالغ عددهم 400، رأوا أن لباس المواطنين تغير حسب الجهة المسيطرة في مناطقهم، سواء مناطق سيطرة النظام السوري أو مناطق معارضته، وحتى في مناطق تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وقال إبراهيم كوكي، معلقًا على الاستطلاع، إن السوريين في حال تحرروا من تلك الجهات فإنهم سيعودون إلى ما كانوا عليه.
وكتب “سبحان الله فطرتنا واضحة وتدين شعبنا مهما حاولوا يغيروه، بس لما يتحرر بيرجع لفطرته البسيطة”.
أما أحمد عدنان، فيرى أن هناك أشياء مفروضة “ضمنيًا” على المواطنين السوريين بتحديد نمط لباسهم، وقال “هناك شيء شبه مفروض على العامة، لكن غير معلن لتحاشي الانتقاد من بعض أوساط المجتمع الهزيل”.
فيما رفض عامر هدلة كل لباس أو لون معين فُرض على السوريين بعد الثورة السورية، وأضاف أن الجهات المسيطرة أثّرت سلبًا على “حضارة سوريا”.
أما 16% من المستطلع رأيهم إلكترونيًا فرأوا أن تلك الجهات لم تؤثر في نمط لباس المواطنين السوريين، فيما لم يعرف 13% منهم ما إذا كانت الجهات المسيطرة أثرت فعلًا على لباس المواطنين أم أن هناك عوامل أخرى لعبت دورًا في تنميط اللباس.
وقال محمد البناوي إنه يحق للسوريين من كافة الأديان والأطياف، وخاصة المسلمين، ارتداء الزي الخاص بهم، وكتب “خمسون عامًا ربينا على تربية البعث والقومية والطائفية، ألا يحق لسني أن يلبس ما يشاء؟ أم يكون إرهابيًا حتى بلباسه؟”.
فيما قالت شكران الأورفلي، معلقةً على الاستطلاع، “من خمسين سنة كل ضيعة ولها زي، وكلو حلو وماشي الحال، والعالم كانت بألف خير، من ملاحظاتنا وانتقاداتنا ومن تدخلاتنا منيح في عالم عايشة”.
استطلاع الداخل.. قبول على مضض أم اقتناع؟
أجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي في مدينة إدلب شمال سوريا، حول رأي المواطنين بفرض اللباس “الشرعي” على النساء في الشوراع والأسواق والمدارس والجامعات.
معظم من حاولت كاميرا عنب بلدي التسجيل معهم امتنعوا عن التحدث بالموضوع، كونه يمس موضوعًا حساسًا في حياتهم، وخوفًا من أن يتعرضوا للانتقادات، فيما قال من قبل الحديث منهم إن على المرأة في إدلب التقيد باللباس “الشرعي” الذي فرضه “جيش الفتح”، من منطلق “حماية نفسها من الانحلال الأخلاقي”.
واعتبر بعض الرجال المستطلع رأيهم أنهم ملزمون ومسؤولون عن مدى تقيد النساء بذلك اللباس، مؤكدين على ضرورة توعيتهن بشروط اللباس “الشرعي”.
فيما أيد آخرون، على مضض، ضرورة فرض اللباس “الشرعي” على المرأة معتبرين أن ذلك أفضل حالًا ممن سموهم “كاسيات عاريات” في مناطق سيطرة النظام السوري.