جريدة عنب بلدي – العدد 19 – الأحد – 10-6-2012
بات أمرًا مألوفًا أن يستيقظ أهالي داريا على أصوات التفجير، هذا إن غفت عيونهم ليلًا من هول ما يسمعون، وما يصل إلى منازلهم من قذائف عشوائية، ولكن الغريب ما حصل يوم الجمعة 1حزيران، في جمعة أطفال الحولة مشاعر النصر، إذ استمرت داريا على هذي الحال أسبوعًا أحمرَ داميًا، يتراوح ما بين إضراب، وحملات تكبير، ومظاهرات مناهضة للنظام، ثم مداهمات واعتقالات، وكذا تفجيرات عدة كان الأكبر منها في ذاك اليوم، ومنذ الصباح الباكر وصلت عناصر المخابرات الجوية، وداهمت أحد بيوتات داريا بحثًا عن ناشطين، ليعم الصوت حتى أنحاء كثيرة من العاصمة دمشق، ولتمتد سحابة الدخان السوداء إلى أفق بعيد، تحمل معها أنباء ما جرى في البلدة.
واستيقظ جيران ذاك المنزل على أصوات التفجير، ورأوا بأم أعينهم جثثًا لشهداء وجرحى يختطفهم الأمن معه، إذ أدار رحى الحرب على ذاك المنزل بمن فيه، وانسحب بعد أن أنهى مهمته، لتدخل بعده لجنة المراقبين الدوليين فتعاين المكان، في لعبة ساذجة منها ومن النظام.
والمؤلم يومها مشهد جثة الشهيد حسام الغزّي المكنى بأبي حمزة، إذ تحولت رمادًا أسودًا، بعد أن تفحمت نتيجة صموده ومحاولة الدفاع عن أصدقائه.
ويذكر أصدقاء الشهيد والمقرّبين منه أن أبا حمزة قد التحق بالثورة من أول أيامها، وكان وجهه لا يغيب عن الصفوف الأولى في المظاهرات، تكاد تخرج الكلمات من أفواه أصدقائه، إذ اختلطت الحروف مع دموعهم التي ما برحوا يسكبونها أسى على ما حلّ بصاحبهم، فقد فاز بما تمنى من شهادة، ومن مقعد صدق في الفردوس بإذن الباري، ولكن القلب ليحزن على الفراق، والعيون تكاد تُفقأ من هول ما ترى.
أبو حمزة ابن الثلاثين عامًا، رجل بحق، فأعز اللهم داريا برجل مثله، تنضوي بين تجاعيد وجهه كل معالم الرجولة والشهامة، وكل خصلة شيب من شعره تروي قصة بطولية حاكها بصدق عقيدته، وبإيمانه بنصر المولى لنا، وبحبه لبني أمه.
أبو حمزة الأب المثالي لأبناء جلسوا مع أمهم في زاوية المنزل يذرفون دموع الأسى لفراق عماد دارهم، وركنها الحصين، وتعتصر الأم كلمات لتروي لأبنائها قصصًا عن بطولة والدهم، ولتزين المستقبل أمامهم بأبهى صورة عن أسد الله في داريا، والذي كان له من اسمه نصيب، إذ جعله الله حسامه في الأرض، ليدافع عن الحق، وليضع يده بيد أصدقائه ويستجلوا الحكمة، ويصنعوا خيرًا بل ويعزفوا على أوتار الحقيقة لحن الحق والصدق، فيسمعه حتى من به صمم.
وتروي لنا الأم كلمات كان يقصّها عليها ولدها الشهيد، فقد كان لا ينطق بنظرها إلا حقًا، وكان -كما تقول- يرى النصر بين عينيه ليس ببعيد، وكثيرًا ما كان يقول لها «إننا يا أمي لا نستحق الحياة إن عشناها عبيدًا، ولن نصمت على ظلم مستبد يريد أن ينتهك أعراضنا، ويقتّل أبناءنا، ويستحي نساءنا، ويسلب أموالنا وحقوقنا، ويحرمنا حق الحياة بسلام».
وتخرج داريا عن بكرة أبيها، لتشيع الشهيد تشييعًا يليق بمكانته التي كان يعتليها بين أصدقائه، وتحت شمس ربي، فالآلاف من الناس توافدوا إلى ساحة التشييع، والقنوات الإخبارية تبث ما يجري مباشرة، وكأن عرس النصر في داريا كان يومها، فالأكف تتضرع للمولى أن يتقبّل الشهيد في عليين، والأكتاف تحمل النعش الذي بورك بجثمان أبي حمزة الطاهر، يتبادلونه فيما بينهم، علّ هذه البركات تنتقل إليهم.
حسام الغزي، اسمه حسامٌ وفعله كحسام مسلول في وجه الطغاة، ولقبه أبي حمزة، إذ بات سيد شهداء داريا، تحول في جمعة (أطفال الحولة مشاعل النصر) إلى سيد المشاعل التي ستضيء سبيل حريتنا، وقد تحول رمادًا أسودًا لينير درب الأحرار وبني قومه، فتقبله اللهم في رياضك، وألهمنا وأهله وأصدقاءه الصبر والسلوان.