لم ترفض الحكومة العراقية، من حيث المبدأ، حق تقرير مصير الإقليم الكردي. ويتركز اعتراضها على مشروع الاستفتاء، حتى الآن، حول نقطة جوهرية، وهي الطلاق بالتراضي، وهذا يعني أن تتم العملية بالتفاهم على التوقيت، وحل بقية القضايا التي تحتاج إلى عشرات اللجان من أجل التفاوض حولها، مثل الحدود والثروات والعلاقات الثنائية والتوزع السكاني والمصالح المتداخلة.. إلخ.
قضية تقرير المصير الكردي في العراق حق، ولكن تحقيق هذا الهدف ليس عملية ميكانيكية، ويشهد على ذلك تاريخ المسألة الكردية في العراق التي تعود تداعياتها إلى القرن الماضي، وهناك محطاتٌ باتت معروفة، بعضها حلو وبعضها مر، وشكّل المسار الذي أخذته منذ الستينيات التعبير الفعلي عن الحالة الكردية التي عاشت بين مدٍّ وجز، فمرة تقترب بغداد من أكرادها وتأخذهم بالأحضان، وأخرى تحاربهم إلى حد وصلت إلى ضربهم بالأسلحة الكيميائية عام 1988 في حلبجة.
كان عام 1991 فاصلا في علاقات الأكراد ببغداد، فمن نتائج “عاصفة الصحراء” خرج قرار الحماية الدولية للأكراد، وهو الذي صار أرضيةً بنَت عليها القيادة الكردية، بصبر ونفَس طويل، حتى وصلت أحوال الأكراد إلى ما هم عليه، حيث بات اقليم كردستان دولةً ناجزة، لا ينقصها سوى الإعلان الرسمي.
تكمن العقدة اليوم في قرار الإعلان الرسمي من طرف واحد، الأمر الذي لا ترفضه الحكومة العراقية فقط، بل العالم أجمع. وما يهم هنا هو موقف تركيا وإيران والولايات المتحدة، فهذه الدول الثلاث هي التي تستطيع جعل الاستقلال الكردي أمرا واقعا لو أرادت.
تعارض الدول الثلاث من منطلقات مختلفة، فالولايات المتحدة تعطي الأولوية، في هذه الفترة، للحرب على الإرهاب، وهذه المهمة، على الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزته ضد “داعش”، غير مرشحة أن تشهد نهاياتها في القريب العاجل، وستركز المرحلة الثانية منها على جيوب تنظيم القاعدة في سورية والعراق.
لتركيا وإيران حساباتهما المشتركة حيال المسألة الكردية، فلدى كل منهما مشكلة على هذا الصعيد، على الرغم من اختلاف الأعراض والمواصفات. وبالتالي هما تلتقيان عند هدف الحيلولة دون قيام دولة كردية في العراق، يمكنها أن تتحوّل إلى بؤرة لبقية أكراد المنطقة، واللافت أن موقف تركيا تغير كثيرا في السنة الأخيرة، وانتقل من المرونة إلى التشدّد تجاه مشروع الاستقلال الكردي في العراق، وذلك بعد أن تمكّن حزب العمال الكردستاني من إقامة قواعد له في المناطق التي تقع تحت سلطة إقليم كردستان، وخصوصا في جبل سنجار.
من خلال ردود الفعل الإقليمية والدولية، تبين أن قرار انفصال كردستان عن العراق لا يحظى بتأييد الحد الأدنى من المواقف. ومن المواقف التي جرى احتسابها ضد المشروع الكردي الموقف الإسرائيلي الذي أعلن تأييد الاستفتاء، وهذا أمر جرى تقديمه على نحو استفزازي للمشاعر العربية من طرف نخب كردية متصهينة، لا تمثل الشعب الكردي.
ليس الاستفتاء الطريق الوحيد إلى تقرير المصير الكردي. قد يصبح هذا المخرج المناسب أمام القيادة الكردية التي وجدت نفسها وحيدة من دون أي تغطيةٍ دولية لقرارها، وهذا يعني أنها ستتراجع عن الاستفتاء في مقابل ضمانات دولية أميركية بأن تتبنّى الأمم المتحدة بعد ثلاثة أعوام حق تقرير مصير إقليم كردستان، ليصبح مشروعا من الناحية الدولية. وتقوم هذه الأطروحة على أن هذه الصيغة هي بمثابة حل وسط، يحفظ ماء وجه بغداد وأربيل معا، ويحول دون الذهاب إلى مواجهة.
كلما يقترب موعد الاستفتاء، يزداد أنصار هذا المخرج الذي سيعلّق المسألة، ويترك أبواب الخلافات مفتوحةً، في وقت تأزمت فيه العلاقات بين الطرفين، بسبب توجه الأكراد للسيطرة على كركوك وأجزاء واسعة من الموصل، وهذا أمر من شأنه أن يشعل أكثر من حرب ضد الأكراد.