«إلا هذه…»
لا يكاد الضجيج حول هذه المسألة يتراجع حتّى يعاود الظهور. مرّة بعد مرّة نراهم يهتفون بقبضات مشدودة يلكمون بها الهواء: «اسجنوهم، اسجنوهم»، وثمّة دائماً من يذهب أبعد: «اقتلوهم، اقتلوهم». رسالتهم هي إيّاها: «إلاّ القضيّة… في ما عدا ذلك، كونوا أحراراً. اكتبوا. صوّروا. شاهدوا. لكنْ إيّاكم والقضيّة».
هذا ليس جديداً على الإطلاق. إنّه نهج يمارسه من عيّنوا أنفسهم مالكين حصريّين للحقّ والحقيقة، من دون أن تُعرض «مناصبهم» على استفتاء أو انتخاب. لا بل لا يزال هذا النهج عندنا أقلّ حدّةً وعتماً بكثير ممّا كان عند سوانا. لكنّ التلاميذ في لبنان لا يتعلّمون شيئاً من سقوطه عند أساتذتهم في بلدان أخرى. وضع كهذا سبق أن عاشه الاتّحاد السوفياتيّ وبلدان كتلته الشرقيّة: «إلاّ الاشتراكيّة والوطن». والاثنان صُوّرا واحداً، لأنّ ضعف الاشتراكيّة يُضعف سلطتها، وضعفُ سلطتها قوّةٌ مؤكّدة للإمبرياليّين الأطلسيّين من»أعداء الوطن». وما دامت الحرب «بيننا» و«بينهم» يوميّة ومصيريّة وتطاول كلّ شيء، صغيراً أم كبيراً، غدت صرخة «إلاّ الاشتراكيّة والوطن» مفهومة ومقبولة عند الباحثين عن أعذار للاستبداد. المثّقفون السوفيات والأوروبيّون الشرقيّون رفضوا في أغلبيّتهم الساحقة هذه الـ «إلاّ». أكّدوا حقّهم في إبداع ما يريدون إبداعه. على السفر إلى أيّ مكان ينوون السفر إليه، بما في ذلك أرض العدوّ «الطامع بنا». طبعاً، القوانين كانت ضدّ ذلك لأنّ أهل الـ «إلاّ» هم مَن وضع القوانين. المثقّفون اتُّهموا بخرق القانون. خُوّنوا. سُجنوا. أُرسلوا إلى المصحّات. سُمّوا جواسيس وعملاء. شُهّر بهم. قيل إنّهم، في العمق، يحبّون العدوّ الإمبرياليّ الطامع.
عبارة «إلاّ القضيّة» ما لبثت أن صارت في 1968 دبّابات تسحق أهل براغ وربيعهم. لكنّ أنظمة «إلاّ القضيّة» انهارت، في النهاية، غير مأسوف عليها. شيءٌ من هذا يُراد له أن يحلّ في لبنان. لكنّه، لحسن الحظّ، لا يحلّ. السبب: بقايا مقاومة لا تزال تُبديها التركيبة المجتمعيّة اللبنانيّة في تعدّدها وفي نفورها من الصبّ في قالب من حديد. أمّا ما يعادل دبّابات حلف وارسو عندنا فمشغولة بأمور أخرى. ما يُراد له أن يحلّ بيننا، وعلينا، هو بالضبط نظريّة «إلاّ القضيّة». هذا مع العلم بأنّ «الخطر المصيريّ» الذي كان السوفيات يحذّرون منه، ويقمعون باسمه، أكبر بلا قياس من الخطر الذي تحذّر منه شلّتنا المحلّيّة.
لكنْ هنا أيضاً ثمّة مستعدّون أن يرفضوا نظريّة «إلاّ القضيّة» وأن يتحمّلوا إلصاق تهم الخيانة والعمالة والجاسوسيّة وحبّ العدوّ بهم. هؤلاء تُضحكهم هذه التهم التي تفتقر إلى المخيّلة افتقارها إلى الصدقيّة، والتي هي قديمة جدّاً ومكرورة جدّاً. أصحابها ورثوا «ثقافة» الاتّهام البوليسيّة عن لغة الخمسينات والستينات العربيّة ولم يضيفوا إليها فكرة واحدة، أو جملة واحدة. مع ذلك لا يكتفي أحرار هذا البلد بالضحك. إنّهم يخشون أمرين:
الأوّل، هذا الضعف حيال ثقافة القبيلة، خصوصاً حين يكون القَبَليّ من زاعمي الحداثة والتقدّم. إنّ دعوته قَبَليّة جدّاً: ممنوع، في ما خصّ القضيّة، أن نكون مختلفين. القضيّة ليست وجهة نظر. لا مكان للمختلف أو المنشقّ في كلّ ما يتعلّق بأوثاننا المقدّسة. «خويا لا تصالح». محاولة تحويلنا الممنهج إلى قبيلة لا تتعارض فحسب مع طبيعة العمل الثقافيّ. إنّها ترتّب علينا كلفة أكبر من أيّ «انتصار» يتحقّق تحت راية القبيلة.
الثاني، نعم، من الضروريّ جدّاً ودائماً رفع الوعي بإسرائيل، خصوصاً بسياستها الاستيطانيّة وبنهجها في التفوّق العسكريّ الكاسح، والتنبيه إلى مخاطر ذلك. ما يحصل مختلف تماماً: لغة الاتّهام والرقابة باسم «القضيّة» تمارس تخفيفاً متواصلاً من بشاعة إسرائيل في نظر قطاعات تريد أن تراها بشعة. هؤلاء، فرسان «أنا بَكْرَهْ إسرائيل»، إذ يريدون لنا أن نبدو مثل ألمانيا الشرقيّة أو كوريا الشماليّة، إنّما يساعدون إسرائيل على أن تبدو مثل ألمانيا الغربيّة أو كوريا الجنوبيّة. في هذه الحال سيكون من الصعب مطالبة البشر بالعمل تبعاً لما ترفضه أذواقهم، فضلاً عن حرّيّاتهم وعقولهم. شيء من الانتباه والفرملة مفيد للجميع. مفيد أيضاً لـ «القضيّة» نفسها– «القضيّة» التي لا تفعل المبالغة فيها إلاّ إنقاصها وتكريه الناس بما تبقّى منها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :