عبد المنعم الحلبي
تقسيم سوريا، وعلى الرغم من أنه لم يكن باعثًا لأي حراك معلن، سوى ما يحاط عن الحراك العسكري الإيديولوجي الكردي الذي يقوده حزب العمال الكردستاني بواجهة سورية متمثلة بحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، يتم تداول هذا الخيار كأحد السيناريوهات الممكنة التي يمكن أن تؤول إليها الحالة السورية، والتي غدت أزمة مفتوحة على عدة أطراف فاعلة: إقليمية، ودولية.. عظمى وكبرى. كما أنه ثمة نقاش غدا أكثر تفصيلًا في تقديم مبررات للسعي باتجاه هذا الخيار، وهي في غالبها مبررات تاريخية وسياسية.
في المقابل لم يتوقف خبراء عن بيان عدم سلامة خطة التقسيم وصعوبة ديمومته، وذلك لافتقاره إلى الحاضنة الجيوسياسية والاقتصادية التي تكفل أساسًا تطبيقه وترسيخه كحل للأزمة السورية، أضف إلى تضمنه لمخاطر غير متوقعة.
أهم القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الأزمة السورية: الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا الاتحادية، تركيا، إيران، السعودية، وقطر، تتبعها في غالبها قوى عسكرية وسياسية على الأرض، ضمن تداخل معقد للغاية في الخريطة العسكرية، وتفاوت وتشعب في توزع المساحات ذات الموارد فيما بينها، مما يحفز لديمومة الصراع، ولاسيما في ظل انحسار المشروع المعادي لها جميعًا، الذي قاده تنظيم الدولة الإسلامية خلال السنوات الثلاث الماضية.
هذه القوى العسكرية ذات الطابع الفصائلي “المليشياوي” تقاتل تحت رايات متعددة، وتعمل ضمن مشاريع سياسية ذات هويات أيديولوجية متناقضة وأهداف متضادة، ويُعتقد أن هذه الخصائص ستفضي إلى تعقيدات خطيرة في طبيعة وأدوات التفاعل في العلاقات السياسية والإدارية بين الكيانات المتوقع أن تنتج عن أي خطة تقسيم يمكن تطبيقها، ولا سيما إذا تم ذلك التقسيم على أساس المناطق التي تسيطر عليها هذه القوى المحلية المتصارعة، والتي تحوي على عناصر أجنبية بطبيعة الحال، وينطبق هذا الوصف على النظام نفسه وقواته، الذي فقد جيشه هيكليته النظامية، وأصبح يعتمد على قوات نخبوية محدودة الإمكانيات، ويعتمد بصورة مطردة على ميليشيات شيعية وفلسطينية لا سلطة مباشرة له عليها.
صورة عامة عن سوريا
تقليديًا، واقع خريطة الشرق الأوسط ظل انعكاسًا لواقع توازن القوى الدولية. وتاريخيًا، هذا ما كانت الحال عليه عشية اقتناع الدولتين العظميين فرنسا وبريطانيا العظمى بنصرهما إبان استعار الحرب العالمية الأولى، ووضوح انهيار الدولة العثمانية عندما قسموا المنطقة بموجب اتفاقية (سايكس-بيكو) في 15 أيار 1916، والتي تم التعديل عليها بما يوافق التحولات التي تلت انتهاء الحرب انطلاقًا من مؤتمر باريس في 1919، ثم مؤتمر سان ريمو الإيطالية في نيسان 1920، ثم بمعاهدة سيفر في 10 آب 1920، والتي نصت على خروج نهائي لأراضي الشعوب غير الناطقة بالتركية من سلطة الدولة العثمانية، وجعلت فلسطين تحت الانتداب البريطاني وسوريا تحت الانتداب الفرنسي، وفرضت تنظيمًا إداريًا لأراضٍ تركية تحت إشراف القوات الغازية، الأمر الذي رفضه الزعيم التركي (مصطفى كمال) فأعلن حرب الاستقلال، التي أدت إلى إلغاء معاهدة سيفر، فحلت محلها معاهدة لوزان عام 1923، والتي فرضت الاعتراف بالجمهورية التركية على أراضيها الحالية، ورسمت الحدود الشمالية بصورة شبه نهائية للدولة السورية بدون أي اعتبار لأي تخوم أو حدود مسبقة، حيث تم اعتماد خط سكة القطار كمحدد وحيد، فانقسمت القرية الحدودية الواحدة إلى بلدين[1]، وتم الفصل بهذه الحدود نهائيًا بعد انتقال لواء اسكندرون إلى الجمهورية التركية في عام 1939.
وبعد استقلال سوريا الكامل في 17 نيسان 1946، لم يطرأ تعديل أساسي على حدودها سوى ما نتج عن قيام إسرائيل في 15 أيار 1948، والحرب التي شنتها في عام 1967 باستيلائها على الجولان والذي حافظت عليه بعد حرب عام 1973.
لقد ظلت سوريا ذات الأغلبية العربية المسلمة من أتباع مذهب أهل السنة والجماعة، مصبًا لهجرات أكراد هربوا من عمليات عسكرية شنتها القوات التركية في مواجهة مطالب شعبية في مناطق ذات أغلبية كردية، بدءًا من ثورة الشيخ سعيد بيران (1923-1925).[2] وكان هؤلاء يقصدون الطرف الآخر من الحدود، مما أدى إلى نشوء مناطق شريطية على الحدود الشمالية لسوريا يظهر عليها الطابع الكردي، ومنها مناطق تسكنها أغلبية كردية بالفعل.
وفي تاريخ 5 تشرين الأول 1962، قامت السلطات السورية بإجراء إحصاء استثنائي في محافظة الحسكة، تم بموجبه تجريد عشرات الآلاف من المواطنين الأكراد من الجنسية السورية التي تمتعوا بها قبل هذا التاريخ، لكن المجردين لم يُبعدوا بل بقوا في مناطقهم مع عدم امتلاكهم للحقوق المدنية.[3]
سوريا أيضًا كانت ملاذًا آمنًا للأرمن إثر مذابح 1915 وما تلاها، وكانت ملجًا بكامل الحقوق للفلسطينيين في 1948 و1967، وهي تتكون من خليط عرقي يغلب عليه العرب المسلمين من أتباع مذهب أهل السنة والجماعة، ويسكن المناطق الجبلية المقابلة للساحل عرب من أتباع المذهب النصيري الذين سموا بالعلويين بعد عام 1920، ويتوزع الدروز في الجنوب منها على طرفي سهل حوران الشرقي والغربي، كما يشكل المسيحيون عُشر سكان البلاد، وهي نسبة مساوية لنظرائهم من الأكراد والعلويين، بينما يشكل التركمان أقلية بنسبة ضئيلة، لكنها أكبر من الأرمن والشركس.
تعرضت البلاد لانقلابات عسكرية بفعل دور دول خارجية منذ عام 1949 حتى عام 1955، أدت إلى إضعاف النخب الحاكمة، ذات التوجه العروبي المحافظ، وصولًا لنتائج التوحد مع نظام جمال عبد الناصر في مصر عام 1958، ثم الانفصال عنه بسبب مركزيته الشديدة.
ومع انقلاب 8 آذار 1963، وصل ضباط علويون إلى مراكز قيادية، ما لبثت أن ازدادت سطوتهم مع انقلاب 22 شباط 1966، قبل أن يتمكن حافظ الأسد من حسم الموقف في عام 1970 ليمتلك وطائفته زمام الأمور في سوريا على مدار أربعين سنة، تحت غطاء عروبي كان الأكراد المستهدفين بها في مناطق انتشارهم، كما وجه حافظ الأسد خلالها ضربات قاصمة لمعارضيه وغالبيتهم من المسلمين السنة، ولاسيما خلال أحداث الثمانينيات.
ورث بشار الحكم عن أبيه في عام 2000، ولم يستطع تقديم النقلة التي وعد بها على مدار عقد كامل، وازداد تسلط طائفته على مقدرات البلاد، وتقلصت الطبقة الوسطى وازداد العوز والفقر والارتباط بمصالح خارجية، ولاسيما مع إيران، ووقع الاحتكار في الحياة الاقتصادية، مما خلق ظروفًا مواتية لثورة عارمة في إطار ما سمي “الربيع العربي”، ثورة تعرضت لتدخلات خارجية غير مسبوقة في تاريخ الثورات الشعبية، وقد أدت هذه التدخلات إلى وضع وحدة البلاد وشعبها في خطر داهم بين التدمير الواسع والتفكك السياسي والتشرد والقتل والتغيير الديموغرافي، واستغلتها الولايات المتحدة الأمريكية لإدارة صراع متواصل بين مختلف القوى المناوئة لها في العراق وسوريا، وعملت على توجيهها بشكل أساسيٍ ضد الإسلاميين الجهاديين الذين أجبروها على الانسحاب من العراق في عامي 2010 و2011.
الولايات المتحدة بين استراتيجية الحرب على الإرهاب وتكتيك تقسيم سوريا
من المعروف أن منطقة الشرق الأوسط وقعت ضمن النفوذ الغربي وفق توازن القوى الذي فرض نفسه بعد الحرب العالمية الثانية، وأن الاختراق الأول الذي وقع في ذلك الواقع كان انطلاقًا من سوريا، وذلك في عام 1955 عبر توجه حكومتها لشراء السلاح من المعسكر الشرقي، الأمر الذي سبب سريعًا صراعًا على سوريا بلغ ذروته في عام 1957، وكاد يتسبب باجتياحها من قبل تركيا وقوات عربية انطلاقًا من الأردن والعراق، بدعم أمريكي بريطاني. [4]
بعد عام 1966 حُسم أمر سوريا واصطفت لصالح المعسكر الشرقي حتى انهيار الاتحاد السوفيتي، مع شيء من التوازن بين الحين والآخر بعد عام 1970 عندما استولى حافظ الأسد على السلطة. وباستثناء إدارة رونالد ريغان أقام الأسد صلات جيدة بالإدارات الأمريكية في عهد جيمي كارتر (1977-1981)، وكذلك منذ حرب الخليج الثانية عام 1991، مرورًا بتطورات مسيرة السلام العربية الإسرائيلية (1992-1997)، وحتى وفاته عام 2000.
بشار الأسد تعرض لمواقف صعبة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول لعام 2001، وإطلاق جورج بوش الابن لاستراتيجية الحرب الوقائية، ثم تطبيقها بصورة ثأرية وفوضوية في العراق عام 2003، واستكملت الضغوط الأمريكية على نظام بشار الأسد عبر قانون محاسبة سوريا 2004. ولقد حرمت خبرة بشار الضعيفة نظامه من التمسك بالتراث الراسخ الذي تركه أبوه في تأمين التوازن المقبول مع الأمريكيين، وهو أمر بلغ ذروة خطورته في مطلع عام 2005 مع إعلان وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس عن نية الولايات المتحدة بنشر الديمقراطية بالعالم العربي، والبدء بتشكيل ما يُعرف بـ “الشرق الأوسط الجديد”، اعتمادًا على ما أسمته بـ “الفوضى الخلاقة”. التي سرعان ما انجرف بشار الأسد بركابها بزيادة حدة التصادم مع رفيق الحريري في لبنان، والذي أدى مقتله في عام 2005 إلى زرع بذور الشك من توجهات طائفية فجة لبشار الأسد، تكرست بانحياز غير مسبوق لإيران ضد المملكة السعودية بعد حرب تموز 2006. وعلى الرغم من فشل الجهود التي بذلتها تركيا وقطر لجره إلى وضع التوازن بعيدًا عن إيران، إلا أن تلك المساعي حمته من المخططات الأمريكية المزعومة، على رغم الانتقادات المستمرة له بعدم قيامه بما يجب في دعم الحرب الأمريكية على الإرهاب، ولا سيما في العراق.
عندما نشبت الثورة السورية لإسقاط النظام في 15 آذار 2011، كان الموقف الأمريكي أقل من المتوقع ضد بشار الأسد، لأنه كان مضبوطًا بسياسة إدارة أوباما التي استهدفت تأمين خطوة آمنة نحو الوراء للأمريكيين من منطقة الشرق الأوسط، خطوة تخفف من وطأة النتائج العسكرية والاقتصادية والسياسية لحروب بوش الابن. لذلك عمدت الولايات المتحدة إلى إدارة الأزمة السورية بطريقة تؤمن الإيقاع بالأطراف التي استغلت خطتها الانسحابية المؤقتة من العراق والشرق الأوسط لزيادة نفوذها وسطوتها على حساب الانسحاب الأمريكي. وفعلًا تمكن الأمريكيون من تأمين توازن جاذب لخوض قتال ضروس في سوريا وغير قابل للحسم، بين جميع القوى المعادية لأمريكا من قوى إسلامية متشددة وإيران وأتباعها في لبنان، ثم لعبت على ورقة دعم القوات الكردية التي سميت بـ “قوات حماية الشعب” (YBG)، والتي أشرف حزب العمال الكردستاني (PKK) على تأسيسها وتأمين شبكة علاقات متوازنة لها مع النظام والقوى المعارضة، تحت غطاء الاكتفاء بحماية المناطق ذات الأغلبية الكردية الملاصقة لمخطط السكة الحديدية- الحدودية بين سورية وتركيا، والتي انسحب النظام منها جميعها بداية عام 2012، وصولًا لتمكنه من إعلان الإدارات الذاتية الثلاثة في الجزيرة وعين العرب وعفرين في تشرين الثاني من عام 2013.
لقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية بدعم القوات الكردية بشكل أكثر تأثيرًا في الانتقال إلى خوض المهمة الأمريكية بقتال تنظيم الدولة الإسلامية، ولاسيما بعد معركة عين عرب- كوباني في خريف عام 2014، واتخاذ ذلك الصراع ذريعة للانتقال للسيطرة على مناطق عربية وتركمانية في شمال وشرق البلاد، وصولًا إلى التوسع الأخير ذو الصبغة السياسية، عبر مسمى “قوات سوريا الديمقراطية”. هذه القوات الكردية ذات الأيديولوجية القومية المعروفة، لم تخف طموحاتها بتشكيل كيان كردي مدعوم أمريكيًا عبر مشروع “الحزام الأخضر”، ثم بتوغل عسكري في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، وما يشبه حملة “تكريد” لمناطق عربية وتركمانية، فاتُهمت بتطبيق خطة تهجير قسري وتغيير ديموغرافي مقرون بدلائل ومؤشرات، أكدتها منظمات دولية، كما حصل بالنسبة لمنظمة العفو الدولية في 13 تشرين الأول 2015 في تقريرها الذي نشرته على موقعها بعنوان “لم يكن لنا مكان آخر نذهب إليه”.[5]
ولكن الولايات المتحدة لم تهتم سوى بإقامة قواعد عسكرية تساعدها في حربها على تنظيم الدولة الإسلامية في مناطق الفرات الأوسط بين العراق وسوريا.
خيار التقسيم واستراتيجية روسيا الاتحادية وإيران في دعم نظام الأسد
لقد كان من الطبيعي أن تؤدي خطة التراجع الأمريكي وإدارة الأزمة السورية باستراتيجية وتكتيكات غير مباشرة إلى أن يتقدم الروس ويطمحوا في الخطوة التالية. ولاسيما بعد اشتعال النزاع في القرم، وبروز المسألة الأوكرانية في دائرة التجاذبات مع الغرب، وشعور روسيا بضرورة حماية خط إنتاجها من الغاز إلى أوروبا، انطلاقًا من منع أي تغيير في سوريا، أضف إلى مصالحها العسكرية اللوجستية التي تشكل احتياطًا غير قابل للمساومة على الساحل السوري، وكذلك تمسك موسكو بالزعامة العلوية للنظام السوري، والذي أفصح عنه لافروف في غير مرة.[6]
روسيا الاتحادية تواصلت ونسقت مع القوات الكردية الموسومة بتوجهات انفصالية، عبر النظام، أو بصورة مباشرة في مواجهتهم مع تركيا، حيث أعلنت دعمًا وطبقت خطة عسكرية لصالح قوات سوريا الديمقراطية في ريف حلب الشمالي، في مواجهة فصائل الجيش السوري الحر المسيطر على أحد معبرين مهمين مع تركيا، وأسهمت في تمدد القوات الكردية على حساب مناطق عربية في إطار تحرك عسكري متوازٍ بينها وبين قوات النظام المتجهة نحو فك الحصار عن نبل والزهراء، شمال حلب، الأمر الذي كان مدعومًا إيرانيًا أيضًا، تحت دعم القصف الجوي العنيف للطائرات الروسية، لكن ذلك كان فقط بعد إسقاط الطائرة الروسية من قبل مقاتلتين تركيتين في ريف اللاذقية الشمالي في 24 تشرين الثاني 2015، وقبل عودة العلاقات الروسية التركية إلى طبيعتها.
بالنسبة لإيران فإنها تمتلك ميليشيات تابعة لها عقائديًا، والتي قد تتأثر باحتكاكات من المتوقع أن تحصل في العراق في الحرب الناشبة هناك على الموصل، وما بعدها. إلا أن موقف إيران فيما يتعلق بالتقسيم سيكون ضمن خط أحمر لا يمكن لإيران أن تحيد عنه، وهو وحدة سوريا في ظل بقاء الأسد، لإدراكها بأن أي نجاح كردي في بلد من البلدان الأربعة التي ينتشر فيها الأكراد سينعكس على الدول الأخرى، وهي ستكون مستهدفة في مرحلة تالية، وإن كان البعض يرى عكس ذلك إلا أنه لا يخرجه من زاوية الاقتتال السني- الشيعي، وهو ما لم يحدث في العراق مثلًا.[7]
تقسيم سوريا وخيارات داعمي الثورة: تركيا والسعودية وقطر
كان من الواضح أن الحكومة التركية لم تكن تمتلك رؤية سليمة لتسلسل الأحداث في سوريا، ولأسباب ذاتية- داخلية ترتبط بطبيعة المجتمع التركي والحراك السياسي الداخلي واعتماد الاقتصاد التركي على الطاقة المستوردة، وأسباب موضوعية متعلقة بعدم وضوح رؤية الحليف الأمريكي لأفق الحل والتدخل في الأزمة السورية، وعدم توفر غطاء دولي، ولا حتى من حلف “الناتو”، لأي عمليات عسكرية وقائية في سوريا… الخ، كل ذلك دعا الحكومة التركية إلى عدم التدخل المباشر في سوريا، فانحصرت فعالية تركيا على مبدأ الفعل ورد الفعل، وفق الممنوع والمسوح به أمريكيًا، والتي بلغت ذروتها في إعلان اعزاز خطًا أحمر جديدًا بالنسبة لها.[8]
انطلاقًا من ذلك لا يمكن تصور أن يكون لتركيا نوايا أو استراتيجية داعمة لتقسيم سوريا، خاصة أن تطورات الأحداث وتمدد تنظيم الدولة الإسلامية إلى سوريا تم استغلاله من القوات الكردية بصورة أفضت إلى تقوية الاتجاه المعادي لعملية السلام في صفوف القوميين الأكراد في تركيا، ولاسيما بعد استيلاء القوات الكردية على مدينة تل أبيض في 15 حزيران 2015، ثم توغلها في ريف حلب الشمالي وتمكنها من السيطرة على تلرفعت في 14 شباط 2016، وتتويجها لكل ذلك بإعلان ما سمي بالاتحاد الفيدرالي في 17 آذار 2016 بين ما يسميه القوميون الأكراد أقاليم “روج آفا” (غرب كردستان) و”أقاليم شمال سوريا”، مستغلة تطورات الأوضاع في العلاقات التركية الروسية بعد إسقاط الطائرة الروسية.
تركيا استشعرت مخاطر التقدم في المشروع الكردي بقيادة حزب العمال الكردستاني على طرفي الحدود، فزادت من وتيرة عملها العسكري في مناطق متعددة من جنوب شرق الأناضول، حيث تحولت العديد من المدن هناك إلى ساحات حرب حقيقية، وكان لابد من رفدها بتغيير سياسي ملموس يضرب مصدر القوة الجديدة للقوى الانفصالية الكردية في الطرف السوري من الحدود.
وهكذا كان لابد من إعادة تهيئة علاقات تركيا مع القوتين الأساسيتين، روسيا الاتحادية أولًا بإعادة المسار الطبيعي للعلاقات معها عبر الاعتذار الرسمي لإسقاط الطائرة، وصولًا بتقديم مقاربة مناسبة للاستراتيجية الأمريكية في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، فأعلنت عملية “درع الفرات” في 24 آب 2016،[9] لتكون باكورة الاندماج الذي يمكن أن يتزايد في بوتقة الصراع القائم في سوريا،[10] ضمن حدود التدخل الوقائي لمنع الأهداف القريبة لحزب العمال الكردستاني في عزل تركيا، وبالتزامن مع تحرك قانوني وعسكري وسياسي داخلي بدا عليه نوع من الحسم ضد المنظومة السياسية الكردية المتمثلة بحزب الشعوب الديمقراطية وقياداته ونوابه.
أما السعودية وقطر، وإن اختلفتا في التفاصيل والتكتيكات التي تعتري علاقتهما، ومن بينها تفاصيل العلاقة مع تركيا ودورها، وما تبقى من مشروع الأخوان المسلمين في المنطقة، فإنهما ومن يرتبط بهما على الأرض، لا يمكن إلا أن يشكلا قوة دعم على المدى المنظور للموقف التركي.
خلاصة التحليل والخاتمة
من الواضح أن توازن القوى في الشرق الأوسط حاليًا لا يحسم باتجاه ضرورة تغيير الخريطة، فمن زاوية جيوسياسية ثمة توافق على أن التنظيم الحالي للمساحات الجغرافية متوافق إلى حد مقبول مع مصالح جميع الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة.
وفي التفصيل ينحصر الصراع بين القوة والمساحة في سوريا على تنظيمي الدولة الإسلامية والعمال الكردستاني، فالمواقع النفطية تبقى دون مستوى الأهمية بالنسبة للدول الفاعلة بالملف السوري فهي دول نفطية غنية، باستثناء تركيا التي تمكنت من تحقيق تقدم اقتصادي قائم على الاعتماد على الطاقة المستوردة، بانتظار تمكنها من البحث عن مواردها الطبيعية في غضون السنين الست القادمة.
الصراع على المناطق الجغرافية يبقى مهمًا بالنسبة للقوميين الأكراد، والذين لن يتوقفوا عن السعي لإقامة الدولة الكردية المستقلة، صراع يضعفه اختلاف إيديولوجي بينهم، ربما يتطور إلى نزاع فيما بينهم في إطار تجاذبات إقليمية. وفي الوقت الذي يشكل فيه تنظيم الدولة الإسلامية التحدي الأكبر لخريطة الشرق الأوسط، أدى تشدده وسياسته العدائية للجميع إلى أن يغدو هدفًا مشتركًا لجميع القوى الأخرى، إلا أن خطورة التنظيم الحقيقية تكمن في “العالمية” التي حققها لنفسه، وانتشاره على بقاع متناثرة عبر شمال ووسط إفريقية ووسط وجنوب شرق آسيا.
لقد لعبت الولايات المتحدة على ورقة تقسيم سوريا من خلال دعمها للقوات الكردية السورية، متجاوزة كل انتهاكاتها الجسيمة، في مواجهة تركيا ومحاولتها رسم دور مستقل لها في سوريا، أو لجرها للعب دور عسكري مباشر في مواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وهو ما ترجمته السياسة الأمريكية من خلال تذبذب دعمها لـ “قوات سورية الديمقراطية” ودورها في المعارك ضد التنظيم، وهي تقوم باستخدام هذه القوات ودورها للتلويح لتركيا بوجود بديل لها في حرب التنظيم، وسيضعف اهتمامها باستخدام هذه الورقة مع مساعيها في تأمين المساحة الجوية لعملياتها الأساسية في الشرق الأوسط، والتي تؤمنها لها تركيا وحلفاؤها في الخليج العربي، الأمر الذي سينعكس إيجابًا على زيادة فرص بقاء سوريا على الخريطة السياسية على الأقل، بانتظار حلحلة التعقيدات الكبيرة في الخريطة العسكرية.
أما روسيا، فقد أبدت وضوحًا أكبر بحصر دعم القوات الكردية وتوجهاتها السياسية فيما يتعلق بالتلويح بورقة تقسيم سوريا، من خلال تطورات العلاقة مع تركيا، بدليل نقضها، وفق ما هو معلن على الأقل، للدعم العسكري والسياسي الذي قدمته لها بمجرد استعادة العلاقات الطبيعية بين الجمهورية والتركية وروسيا الاتحادية، وتأكيدهما على العمل معًا في سبيل حماية وحدة سوريا.
أصبح من الواضح أن تركيا تطبق خطة عمل على طرفي الحدود بتنسيق وضوء أخضر روسي، وأمريكي مشروط بقتال تنظيم الدولة الإسلامية، والاقتصار على تهديد وجود القوات الكردية غربي الفرات بحسب المعطيات المتوفرة حتى الآن، وبالتالي مواجهة أي نوايا انفصالية في سوريا. وبعد تمكنها من السيطرة على مدينة الباب، فإنها تنتظر على ما يبدو تطورات الصراع مع تنظيم الدولة الإسلامية في (الرقة)، لبدء حصد جهودها على حساب القوات الكردية ووجود المسلحين الأكراد غرب الفرات بتأمين ما يلزم للذهاب إلى منبج، أو على الأقل إلى تلرفعت ومحيطها، وبالتالي إنهاء حلم “الحزام الأخضر” الكردي، وإلا فإن عليها أن تمضي إلى فرض توازن سياسي وعسكري عبر تل أبيض نفسها، وبجميع الأحوال فإن التحرك التركي سيكون على حساب حظوظ التقسيم، وإن كان ذلك غير بعيد من نفوذ تركي واضح المعالم.
يسير مع تركيا في تصوراتها القوى المدعومة من قبل السعودية وقطر، ترجمة لمواقف هذين البلدين الحريصين على تأمين قوة خارجية على الأرض تسهر على حماية الخليط الديموغرافي للمناطق التي ينحسر منها تنظيم الدولة الإسلامية.
كما لا يمكن لإيران أن تدعم أي خيار فيدرالي أو انفصالي في سوريا، لأن ذلك سينعكس عليها بصورة مباشرة، ولو بعد حين، لاسيما في ظل تطورات الأوضاع في شمال العراق، واحتمالات تحالف أقوى بين المكون العربي السني مع أكراد كردستان العراق.
النظام من جهته، وكما استفاد من تمدد تنظيم الدولة الإسلامية في إخافة الغرب، وشكل ذلك مدخلًا لدور عسكري مقبول لقواته في مواجهة التنظيم، استعمله كغطاء لحربه الوحشية على المناطق الأخرى الخارجة عن سيطرته، فإنه قد يعيد السيناريو بحذافيره مع تركيا، في مخاوفها من التمدد الكبير لقوات سوريا الديمقراطية، ذات العمود الفقري الكردي المناوئ لها، مما قد يكون مدخلًا لتبادل مناطق نفوذ، وربما تم ذلك فعلًا وفق ما تشير إليه بعض التطورات الأخيرة، بانتظار نتائج معركة الرقة ودير الزور التي ستشكل نتيجتها المنعطف الحاسم لمختلف الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية.
————————————————————————————-
[1] راجع: جمال باروت، التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013، بيروت.
[2] , Vera Eccarius-Kelly ,2010-The Militant Kurds: A Dual Strategy for Freedom, page 86.
[3] إياد محمود حسين، 8/6/2006- تاريخ الأكراد ومستقبلهم (مجلة تحولات)
[4] بترك سل، 1985- الصراع على سورية-دراسة للسياسة العربية بعد الحرب (1945-1958)، ترجمة: سمير عبدو-محمود فلاحة.
[5] منظمة العفو الدولية: سوريا “ لم يكن لنا مكان آخر نذهب إليه “ – النزوح القسري وعمليات هدم المنازل في شمال سوريا،
بقلم Amnesty International 13/تشرين الأول / أكتوبر 2015, رقم الوثيقة : MDE 24/2503/2015
[6] ثمة مقالة عالجت فيها دوافع التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، وقد حملت عنوان (التدخل العسكري الروسي في سورية من وجهة اقتصادية.
[7] عبد الوهاب بدرخان، 30/1/2013- تقسيم سورية: هدف يجمع إيران وإسرائيل (جريدة الحياة)
[8] ورقة تقدير موقف بعنوان: خيارات تركيا الصعبة في الشمال السوري، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وحدة تحليل السياسات، 23/2/2016.
[9] راجع: ورقة تقدير موقف بعنوان (دوافع التدخل التركي في سورية واحتمالات توسعه)، المنشورة لدى (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، بتاريخ 30/8/2016:
[10] ثمة رؤية قدمتها عن حدود التدخل التركي في سوريا في مقالة منشورة في أيلول من العام الجاري في أكثر من موقع إلكتروني وحملت عنوان (الحدود الاقتصادية والعسكرية للتدخل التركي في سورية).
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :