عنب بلدي – علي بهلول
ربما لن يكون تاريخ ميلاد بكري حمامي عام 1993 الأمر المدهش الوحيد بالنسبة لطلاب جامعة كوبنهاجن التي سيحاضر فيها بعد أيام قليلة، فالشاب سلك طريقًا وعرة من حلب، مرورًا بتركيا، حتى وصوله إلى الأراضي الدنماركية، لم يسنده فيها إلا الموسيقى.
تعلّم الموسيقى من الجوامع والمشايخ
بالقرب من قلعة حلب، وأمام مبنى الهجرة والجوازات القديم، ضم جامع الإسماعيلية عددًا من المنشدين المتميزين كان أشهرهم حسن حفار، ذائع الصيت، وربما يعود غنى هذا الجامع بالمنشدين إلى الحلقات الدينية التي تنوعت بين الفقه وعلم التوحيد والتجويد، الذي جذب إليه العديد من الطلاب والمهتمين.
في هذه الأثناء كان بكري حمامي قد أنهى دراسته الثانوية العامة، وامتهن صياغة الذهب، وبدأ بالتردد بشكل مستمر على جامع الإسماعيلية، حيث واظب على حضور جلسات الإنشاد الديني التي أحياها حسن حفار أيام الجمعة.
كان الإنشاد الديني فرصة مهمة تعلّم الشاب من خلالها الكثير من الموشحات والأناشيد، واستزاد أكثر من حلقات الذكر التي تليها. دفع ذلك حفار إلى الاهتمام بتعليمه حتى أصبح منشد الذكر على الطريقة القادرية، التي وصفها بأنها “من أروع اللوحات الإنشادية”.
من هذا المكان تعرّف حمامي على منشدين أصبحوا أصدقاء ومعلّمين له، في بقعة مضيئة من الثقافة الإسلامية وبعيدة في ذات الوقت عن دائرة الظهور، فتعرّف على عازفي عود، وعن طريقهم أحب الموسيقى التركية الكلاسيكية، فضلًا عن تعلّمه التوشيح الأندلسي، وفنون الإيقاع والضرب على الدف.
كان نهار حمامي يبدأ من الساعة السادسة صباحًا ولا يعود إلى منزله حتى أواخر الليل، غارقًا في شتى أصناف الموسيقى والإنشاد، وبالرغم من ذلك توجه إلى العديد من الأماكن الأخرى بحثًا عن المزيد من الموشحات النادرة القريبة من القلب.
أسوأ 24 يومًا في حياة حمامي
“في بداية أحداث حلب خرجت من منزلي، ولم أتمكن من أخذ الكتب والتسجيلات القديمة التي جمعتها من عند أهل العلم الموسيقي، بقي كل شيء هناك في البيت الذي لم أعد إليه، لكن الموشحات بقيت في بالي، وحبي للتعلمّ بقي موجودًا”.
بهذه الكلمات تنفجر الثورة في سيرة بكري حمامي، لا تنكسر إرادته بالتنقل مع عائلته بين عدة مناطق في حلب حتى وصل إلى منطقة السليمانية، حيث يملك والده محلًا للعمل.
“ديروا بالكن على الوطن.. وما تواخذونا”، بهذه الكلمات أنهى المحقق في فرع الأمن السياسي فترة وصفها حمامي بأسوأ أيام حياته، حيث جرى اعتقاله على حاجز أمني بعد خروجه من مقهى إنترنت بسب تشابه أسماء، في 24 كانون الأول 2012، وقضى في المنفردة 14 يومًا، وعشرة أيام مع معتقلين آخرين.
إلى الموسيقى مجددًا
بعد شهر من خروج حمامي من المعتقل غادر سوريا وعائلته إلى تركيا، حيث بدأ من هناك حياة جديدة، فإلى جانب عمله في شركة للخياطة، عمل مع فرقة إنشاد تركية في مدينة مرسين، وكانت هذه أول تجربة له خارج سوريا.
غادر حمامي مرسين باتجاه بورصة للعمل أيضًا، وهناك تعرف على أستاذه التركي صادق أرماك، الذي علمه المزيد من الأناشيد الدينية والموشحات الغزلية، وكاد أن يتعلم منه العزف على آلة الكمنجة لولا اضطراره العودة إلى مرسين من أجل عائلته.
في عودته الثانية إلى مرسين تعرف على عازفي عود وقانون سوريين، وأنشأ معهم فرقة تخت شرقي صغيرة وأحيوا العديد من النشاطات في الولاية.
التوشيح والتراث السوري بموسيقى غربية
استمر حمامي على هذا المنوال، حتى أواخر تشرين الثاني 2015، إلى أن وطئت قدماه أرض الدنمارك، وبعد حصوله على الإقامة بدأ بالبحث مجددًا عن موسيقيين ومهتمين بالطرب الأصيل.
وحمل حمامي هويته العربية المسلمة إلى الدنمارك، فلم ينسلخ عنها ولم يعجز عن مزجها بهوية الحضارة الأوروبية، فقدم الموشحات والقدود والإنشاد الديني بمرافقة الموسيقى الغربية التي عزفها أوربيون ودنماركيون.
كان تقبل الأوربيين لموسيقى الموشحات والإنشاد الديني لطيفًا، وفق ما لمس حمامي، الذي سعى جاهدًا لترجمة كل ما يقدمه موسيقيًا ولغويًا لمساعدة الجمهور على فهم ما يشعرون به.
يتذكّر حمامي حماس الجمهور لسماع موسيقى البلد التي ذاع صيتها في العالم بسبب الحرب، في أول حفل له مع EKKO & The Syrian roots، وهو مشروع بدأ منذ سبعة أشهر بعد أن تعرّف على أعضاء الفرقة عن طريق إعلان في موقع “فيس بوك” وبدأ بتدريبات مشتركة معهم.
قدّمت الفرقة عدة حفلات في أماكن متفرقة من جزيرة يولند الدنماركية، وقريبًا سيقدّمون موسيقاهم خارج الدنمارك.
ويوضح حمامي أن هدف المشروع يتركز على تعريف المجتمع الدنماركي على التراث والثقافة السورية، وتعريف الجالية السورية على ثقافة البلد المستضيف أيضًا، بما يسهم بتقارب المجتمعين.
أمنية أخيرة من أجل سوريا
يلاحظ حمامي البهجة على وجوه الجمهور في الحفلات، بالرغم من أنهم لا يفهمون جميع المعاني بشكل كامل، إلا أن تفاعل العازفين مع كل أغنية ينقل للناس الجمال الذي تحتويه كلماتها، حتى إن العازفين أنفسهم بات لديهم متعة في تعلّم المزيد كل مرة.
مشاركة الشاب مع الأوركسترا الدنماركية في بلدية اسيبا بتقديم أغنية “هالأسمر اللون” من التراث السوري بأكثر من أسلوب، دفعه للشعور بالفخر لنقل التراث السوري إلى هذا المكان، لأن المنطقة التي يعيش فيها بعيدة عن العاصمة ولا يوجد فيها الكثير من السوريين.
وفي ظل نظرة الغرب “المخيفة” للإسلام واعتباره دينًا “متخلفًا”، يسعى حمامي إلى إظهار الجانب الجميل من وجه الإسلام من خلال اللحن اللطيف والأسلوب الصوفي الروحاني، ليكون عمله شرحًا لمجالس الذكر الصوفية، بحسب وصفه.
وبعيدًا عن الحفلات، شارك حمامي في جامعة كوبنهاجن بدعوة من أستاذة مادة الأدب العربي جون الضاحي لتعريف الطلاب بالموسيقى الإسلامية، كما شارك في المتحف القومي وقدم عدة محاضرات عن التراث الحلبي الديني والموسيقي.
وتنتظر جامعة كوبنهاجن مشاركة جديدة من حمامي بعد عدة أيام لإعطاء دروس لطلاب الموسيقى، يشرح من خلالها الإنشاد والذكر الصوفي، ويعلمهم بعض الألحان الدينية.
“أتمنى أن يكون هناك من يقوم بنشر تراثنا والحفاظ عليه من الضياع، ونشر الأمل في عودة سوريا من جديد بمحبة وسلام، ورحم الله شهداءنا”، بهذه الأمنية ختم حمامي حديثه مع عنب بلدي، تاركًا لنا أثر موسيقاه وإنشاده الذي وصلَنا عبر مقاطع الفيديو.