عنب بلدي – حنين النقري
لتطور البلاد مؤشرات ودلائل، لا تنحصر بارتفاع سوية التعليم والخدمات والصحة والبنى التحتية. ولانحدار أي دولة عوامل لا تخفى، قد تبدأ بغياب وسائل تطورها، وقد تمتد إلى نواحٍ أسوأ، كشيوع البطالة والأمّيّة، والركود الاقتصادي، وهجرة الشباب منها، ما يُخلي البلد من العقول اللازمة لتطويرها وإيجاد حلول لمشكلاتها، والأيدي والمهارات التي تحتاجها لتطبيق تلك الحلول.
“اليوم أتم عامي الواحد والعشرين هنا في السعودية، وأحمد الله أني سافرتُ رغم معارضة أهلي حينها”، يقول السيد نعمان (42 عامًا) صاحب ورشة إصلاح سيارات في السعودية، ويضيف “لم أكن ناجحًا في الدراسة بشكل عام، فقررت الخروج من المدرسة في الصف الثامن، وتنقّلت بين عدة مهن إلى أن استقر بي الأمر عند معلّم ميكانيك سيارات، أعجبتني المصلحة فمردودها المادي ممتاز لمن يتقنها، وهكذا تعلمت المصلحة خلال ثلاث سنوات لازمت فيها معلمي قبل أن أُطلب للعسكرية”.
هل تريد عاملًا؟
بعد عامين من الانقطاع، عاد نعمان إلى المصلحة التي أحبها قبل خدمة العسكرية، لكنه كان يطمح براتب أفضل مما يمكن أن يحصل عليه كأجير في ورشة، وهكذا بدأت رحلة البحث عن عمل، يقول “بحثت كثيرًا، و(حطيت خبر) عند كل من أعرفهم، كنت أميل لفتح ورشة خاصة بي لكن إمكانيات أهلي لم تكن تساعد، وهكذا عندما أخبرني عمي في السعودية عن وجود فرصة لي هناك لم أتردد، فالأجور هناك أفضل بأضعاف، وتوجد حاجة لهذا النوع من المهارات”.
لم تكن إجراءات السفر والتأشيرة بالتعقيد الذي يعيشه السوريون اليوم، ورغم معارضة أهل نعمان الشديدة أصرّ على السفر، وهكذا خلال أشهر سافر إلى السعودية، وبدأت رحلته هناك.
سمعة
كجميع المغتربين، لم تكن طريق نعمان معبدة بالورد، ولكنه كان صبورًا أمام العقبات، يقول “واجهت صعوبات لا تحصى في البداية، ليس أقلها العنصرية والتعرض للإهانات من حين لآخر، إضافة لصعوبة التعامل مع جنسيات مختلفة كالهنود والبنغال، أو النوم في مقر الورشة بظروف جوية لا تطاق بالنسبة لابن الغوطة الشرقية وبساتينها وبرودة جوها”.
رغم كل هذا كان نعمان مصممًا في داخله على النجاح، ويضيف “لهذا كنت أصبّر نفسي ولا أيأس، إلى أن أكرمني الله بعد عامين من الادّخار وبمساعدة من أخي الكبير وعمي بافتتاح ورشة صغيرة برخصة استخرجتها على اسم عمي”.
بعد سنة تقريبًا استقدم أخاه الأصغر سنًا، وهكذا صار الإخوة الثلاثة يعملون ويرسلون مبالغ مالية يساعدون بها عائلتهم.
“أهم ما في هذه المهنة الأمانة والصدق، وهو ما حرصنا عليه، وكان أثره على سمعة عملنا وورشتنا ممتازًا، وصرنا نوسّع عملنا شيئًا فشيئًا”، يقول نعمان.
استقرار
بعد عدة أعوام من العمل، وتحسن أوضاعهم المادية، تزوّج نعمان وأخواه من سوريا، واستقدموا زوجاتهم فيما بعد، يقول “كل يوم نمضيه في السعودية يصعب علينا خط العودة، عملي هنا مستقر، وحياتي هانئة، صار عندنا أولاد في الإعدادية، وأصدقاء وأهل نزورهم ويزوروننا، وفي الصيف نتناوب أنا وإخوتي، أحدنا يبقى ليدير شؤون الورشة، واثنان منا يزورون العائلة في سوريا، لكن بعد الثورة لم نعد نتمكن من زيارة أهلنا بسبب الظروف الأمنية هناك، لكن الحمد لله، أمورنا بخير ونطمئن على أهلنا دائمًا”.
شيف
حاله كحال الملايين، خرج محمّد (37 عامًا) من سوريا عام 2012، مع تزايد التصعيد العسكري على مدينته حمص، وكانت وجهته آنذاك تركيا، يقول “مع زوجتي، وثلاثة أطفال، كان البقاء تحت القذائف والغارات انتحارًا، فخرجنا، تاركين وراءنا أحلام واستقرار السنين، إلى مجتمع مجهول تمامًا”.
في تركيا، كان على محمد أن يجد عملًا قبل أن تنفد الأموال التي في جعبته، يقول “عملتُ في سوريا شيف في عدة مطاعم، معجنات وشاورما ووجبات سريعة، وهو الأمر الوحيد الذي أتقنه، لذا بحثت عن عمل في هذا المجال، عندما سافرت لم تكن هناك مطاعم سوريين كما هو الحال اليوم لذا كان عملي مع الأتراك، وكانت ظروف العمل قاسية”.
ظروف عمل مجحفة
في ظل عدم وجود أذونات عمل، كان عمل محمد في مطعم تركي غير قانوني، ولم تكن تنطبق عليه قوانين الحد الأدنى للأجور أو الضمان الاجتماعي كغيره من العاملين الأتراك، يقول “بالكاد كان الأجر الذي أتقاضاه يكفي لسد إيجار الغرفة التي استأجرتها لعائلتي، وسد رمقهم، حاولت البحث عن عمل بشروط أفضل لكنني كنت ضحية الابتزاز في كل مرة، إضافة لزيادة عدد اللاجئين السوريين في تركيا، والذي منعني من طلب زيادة الأجر إذ سيطردني صاحب المطعم بسهولة مع وجود آلاف اللاجئين غيري مستعدين للعمل بهذا الأجر”.
هجرة
بعد عام ونصف، لم يجن محمد ثمرة صبره، يتابع “شعرت أن البقاء في تركيا غير مجدٍ، لا شيء منصف لنا هنا، نعامل كبشر من درجة ثانية أو ثالثة لأننا لاجئون وندفع ضرائب وفواتير كالأتراك، وجدت الآلاف حولي من السوريين يهاجرون عبر البحر إلى أوروبا، هناك على الأقل يحصلون على مساعدات تكفيهم ريثما تستقر أوضاعهم ويقفون على أقدامهم من جديد”.
وهكذا بدأ بالتفكير في الأمر، رغم تكاليف الوصول إلى أوروبا، بالنسبة للاجئ، يقول “كل البلاد خارج وطني متشابهة، أسافر إلى حيث توجد فرصة أفضل لي ولعائلتي”.
نموت معًا أو ننجو معًا
“يا منموت سوا يا منعيش سوا”، هكذا كان رد فعل زوجة محمد على قرار هجرته وحيدًا، يقول “بعد أن حسمت أمري بالسفر عبر البحر وحدي، ولم شمل عائلتي فيما بعد، فوجئت بزوجتي تعارض ذلك بشدة خوفًا علي من مصير مجهول، أمام إصرارها وبكائها لم يكن هناك بدّ من تأمين مبلغ مادي كافٍ لهجرتنا نحن الأربعة، وكان الحل الوحيد بيع حصتي من منزل أهلي في حمص، لنبدأ بعدها تجهيزات التواصل مع مهرب ثقة”.
بعد عدة أشهر من التخطيط والتنفيذ، في صيف عام 2014، كانت العائلة في مخيم للاجئين في ألمانيا، ويلفت محمد إلى أن “التنقل له ثمنه، ففي كل مرة يسافر فيها السوريون إلى بلد جديد، يصفّر عدّاد الاستقرار، في المخيم كان أمامنا مجددًا مستقبل مجهول في مجتمع جديد، وعلينا أن نبني استقرارنا وحياتنا فيه من الصفر”.
طوابير الإعانات
بعد أعوام ثلاثة من عيشه في ألمانيا، يعمل محمد اليوم في مطعم سوري للشاورما في برلين، يقول “الحمد لله، وين كنت ووين صرت، لا أنكر أنني شعرت باليأس مرارًا، وكرهت حياتي وانهرت، لكنني في كل مرة كنت أتماسك لأجل زوجتي وأبنائي، عندما حصلنا على لجوء لثلاثة أعوام وخرجنا من الهايم إلى منزلنا الخاص، تحسنت أوضاعنا ونفسياتنا كثيرًا، اعتمدت على المساعدات المالية الممنوحة لنا كلاجئين في البداية ريثما أتعلم اللغة وتستقر أموري، لكني فيما بعد بدأت بالبحث عن عمل في مجالي كـ (شيف)، وهو ما كان مطلوبًا لكثرة أعداد السوريين في ألمانيا، الذين يبحثون عن اللقمة السورية التي تذكرهم ببلدهم”.
بعد لحظات من الصمت يتابع محمد، “السوري معتاد على الظروف الصعبة، ولديه قوة إرادة تلين الحديد، نحن شعب أبي وهاجرنا هربًا من الحرب لكننا نريد أن نعمل بكرامتنا ونكسب رزقنا بجهدنا، وليس لنقف على طوابير الإعانات”.